س. ر. شلبي
مقدّمه:
للكتاب
الذي سيتم عرضه على هذه الصفحات اهميّة كبيرة، فقد أثار جدلاً واسعاً بين المهتمين
بالتراث، كونه خرج باستنتاجات جريئة وغير مسبوقة، وأثار جدلاً
حول فترة زمنيّة غير بسيطة تراكم عبرها كمّ
هائل من التراث. وقد طبع الكتاب
الذي ألّفه "سيّد محمود القمني" أكثر من مرّة، وبين يدينا الطبعة
الثانية لعام 1993، والصادرة عن دار سينا بالقاهرة.
ويعزز من أهميّة الكتاب كونه خلاصة
لأبحاثٍ قام بها الكاتب على مدار عشرة سنوات، معتمداً
على 106 مرجعاً عربيّاً ومعرّباً، و32 كتاباً أجنبيّاً كملراجع، إضافة إلى رجوعه
إلى مصادر أوليّة كالمخطوطات، والنقوش، والكتب المقدّسة؛ وهو فوق ذلك كتاب ممتع
للقراءة، لا يملك المرء إذا بدأ به إلا أن يتابع إلى النهاية أسلوب الكاتب القصصيّ
المشوّق والساخر إلى حدٍّ ما _دون أن يتخلّى عن الدقّة العلميّة_ وتمكّنه من اللغة
التي تنساب برشاقة وسلاسة منذ البداية وحتّى النهاية، إضافة لاستخدامه للجمل الغير
متوقّعة، والتي لا تخلو من الرصانة وحسن التركيب. ومما يثير الانتباه استخدام
الكاتب ألفاظاً لغويّة كأساسٍ للتحليل، رابطاً إيّاها بجذورها التاريخيّة
والأسطوريّة، وذلك في بعض المواقع من الكتاب.
والمسألة
الأساسيّة في هذا البحث هي الأسطورة، وعلاقتها بالتراث والدين؛ إذ يرى الكاتب أن
الشعوب العربيّة، بالرغم من تمسّكها بالعنصر والجنس والجذور القوميّة جاهلة
بتراثها. وأن هذا التمسّك العنصريّ بالجذور القوميّة لا يعدو كونه ردّ فعلٍ طبيعيّ
لفترة طويلة من الاحتلال الأجنبي، وفشلٍ في مشاريع التحديث بعد الاستقلال، إضافة
إلى فشل التوجّهات العلمانيّة في إيجاد مرتكزات جماهيريّة لها. وأخيراً _وهي
النقطة الأساسيّة_ وجود الدولة الصهيونيّة على ترابٍ وطنيّ، وما تشكّله من خطرٍ
وتهديدٍ دائمين، كونها جرحاً غائراً دائم النزيف في الكرامة الوطنيّة والقوميّة.
وبما أنّ هذه الدولة مقامة على أسس عنصريّة جنسيّة قوميّة تتمثّل جميعاً في الدين،
فإن هذا كان دافعاً لذات التوجّهات لدى الشعوب العربيّة من أجل توسيع المجابهة
البشريّة، وإعادة التوازن للذات.
وهذا الاحساس بالدونيّة والتقزّم الذي تشعر به الشعوب العربيّة لعجزها عن
اللحاق بعالم اليوم أدى بالعربيّ إلى عكس مشاعرة لتحويل الدونيّة إلى الآخر سعياً
لإيجاد نوعٍ من التوازن النفسيّ، فكان ان تمّ تضخيم الذات، والثقافة القوميّة،
والأصل، والماضي، حتّى وصلت إلى أقصاها بنرجسيّة واضحة، بل وفصاميّة _وفقاً لتعبير
الكاتب_ باتهام الآخر بالإغراق والضياع في أزمة روحيّة واجتماعيّة مصدرها الثقة
بالعلم البشريّ، وانتهى به الأمر إلى التشكيك في إمكانات العقل البشريّ وقيمة ما
أنتجه، وكان أخيراً ذلك الخلاص العربيّ السهل: الارتداد نحو الماضي لرأب الصدع
النفسيّ.
وهل أسهم هذا الارتداد في إعادة قراءة سليمة للتراث؟
وفقاً للكاتب، يبدو أن العكس هو الذي
حصل، إذ أصبح التراث شعارات فارغة من المحتوى تترجم توجّهات أيديولوجيات أصحابها
ممّن يدّعون تفسير التراث ، وأصبحت "العودة للجذور" عودة مظهريّة
تعزّزها التوجّهات الإعلاميّة، وتعالج الدين كسلسلة من الإحداثيات الإعجازيّة،
تاركة الجماهير في انتظار خلاصٍ سماويّ، وإعجازٍ علويّ يعيدها إلى عصر الفتوحات
حيث تحمل السيوف تتقدّمها جيوش الملائكة!
ويقرّ الكاتب بأنه كانت ثمّة محاولات جادّة ومهمّة لقراءة التراث، ولكنّ
معظمها يزخر بالاصطلاحات، والتراكم المعرفي والمفهومي، ممّا يجعل القاريء العاديّ
تائهاً بين الإطالة المفرطة، وتراكم المصطلحات. ويرى أن أكبر المآخذ على دراسات
التراث هو أنّها نظرت إلى تراث الأمّة باعتباره ذي بنية زمكانيّة معيّنة ، تحدّد
مكانيّاً بأرض الحجاز (العروبة)، وزمانيّاً بنزول الوحي (الإسلام)، وعمّمت ذلك على
الدول التي خضعت للفتح الإسلامي، إذ قامت بعمليّة "عربَنَه" للتراث
السابق للإسلام، وأعادت الأصول العرقيّة للحضارات هذه إلى جذورٍ عربيّة من
الجزيرة. ومع هذا، يشير الكاتب إلى تلك الدراسات الجادّة التي بدأت بمحاولة تحديد
الهويّة، ونفي العدميّة التراثيّة، طارحة تساؤلات عمّا يجب الإبقاء عليه أو إعادة
النظر فيه من التراث، مساهمة بذلك في زيادة الوعي بالتاريخ. ويرى بأنّ هذه
الدراسات _وهو الأمر الأهمّ_ قد وصلت إلى حقيقةٍ جوهريّة وهي أنّ التراث "إرث
موروث عن الأسلاف، فاعل ومنفعل ومتطوّر دوماً. وأنّ أيّة نقلة تطوّريّة على سلّمه
لا بدّ أن تسبقها نقلة على الدرجة الأقلّ، يستحيل دونها الوصول إلى الدرجة الأعلى،
وأنّه _إبان التطوّر الرأسيّ_ يحصل تطوّر أفقيّ يُلقي عنه مالم يعد لازماً لاحتواء
الظرف التطوّري الجديد، أو ما لم يعد صالحاً لمعالجة الإشكالات المستمرّة التي
يفرضها التطوّر الجديد للأشكال الاقتصاديّة والتنظيمات الاجتماعيّة.
ويركّز الكاتب على حقيقة إهمال المصادر الإسلاميّة لتراث ما قبل الإسلام
ونفيها باعتبارها مرحلة ميّته، مسببة بهذا انفصالاً ما بين ثقافة الحضارات
المندثرة، وثقافة الحضارة العربيّة الإسلاميّة، آخذاً عليها نفيها للأسطورة محتجّة
بكونها لاعربيّة ولاإسلاميّة، وبالتالي لامعقولة؛ فجالوت (جوليات) الفلسطيني الذي
حارب جيوش داوود عدوّ لله، عليه لعنة الملائكة والعباد، وفرعون لا أهميّة له،
اللهم سوى كونه طاغية فاجراً كافراً ملعوناً إلى يوم الدين، ولا يهمّ أن نعرف عنه
أكثر من ذلك.
في هذا الكتاب، يضع الكاتب رؤيته الخاصّة للتراث، فهو "ناتج تراكمٍ
كميّ وكيفيّ لخبراتٍ طويلة تعود إلى بدء استقرار الإنسان على الأرض وارتباطه بها، وهي
ناتج تفاعلٍ جدليّ داخل هذا المجتمع ، وبينه وبين بيئته الطبيعيّة، وبينه وبين
المجتمعات الأخرى، والثقافات التي تتيح لها الأحداث أن تتماشى مع ثقافته عبر
تطوّرٍ زمنيٍّ يشكّل في النهاية منظومة فكريّة تندرج في إطارها مفاهيمه
الاجتماعيّة، وتتشكّل في ضوءها أنماطه السلوكيّة". ويصرّ على أنّ أكثر
مكوّنات البيئة الثقافيّة إيغالاً في القدم يظلّ حاضراً في قوامها. ولذا فإنّ
إلقاء التراث القديم جريمة لا تغتفر بكلّ المقاييس، لأنّ هذا يقطع الحبل السريّ للأمة
مع رحمها الأصيل. ويرى الكاتب بأنّ الحكم على القديم باللامعقوليّة ناتج عن عدم
الفهم لخصوصيّة لغة القديم، والنسق الشامل الذي استخدمت فيه الكلمات كأدوات
للتعبير عنه، والترتيب النسقي لهذه التعابير، وعلاقتها بأنماط التفكير، إضافة إلى
عدم فهم أساليب توصيل المعاني والرموز.
وعبر الكتاب، يربط الكاتب بين الأسطورة والدين، ويعرض مظاهر سلوكيّة لا
يمكن تفسيرها سوى بالبحث في جذورها الأسطوريّة، ثم يبرز العلاقة، ومظاهر التشابه
والاختلاف بين الاثنين. وهو يرى عبر بحثه بأنّ الأديان الابتدائيّة نشأت ضمن ظروف
اجتماعيّة واقتصاديّة لم تعد الأسطورة تفي بمطلب مواكبتها فتجلّى الدين كبديلٍ معرفيّ
أشمل وأقدر على المعالجة المعرفيّة. وهو يميّز ما بين الدين والأسطورة من حيث كون
الأوّل ناشئاً عن ظروفٍ موضوعيّة ويتدخّل فيه الجانب الفرديّ، واللمسة العبقريّة
لأشخاصٍ بعينهم، ومن ثمّ يصبح توجّهاً مخطّطاً ومبرمجاً عن وعي فئة متميّزة في
المجتمع في مراحل تطوّره؛ بينما كانت الأسطورة بمنأى عن الفرديّة على الدوام. ولا
يجمع بين الاثنين سوى كونهما باعثين للأمل فيما هو أفضل، مع بعض الخيال الذي
يقتضيه ضعف العلوم الطبيعيّة.
ويتسائل الكاتب: هل جاء الإسلام المرتبط بالعروبة بالضرورة بقطيعة معرفيّة
مع الأسطورة حتى يمكن القول مع القائلين بأن هذا المعقول ودونه اللامعقول؟ ثم يجيب
بتساؤل آخر: هل نرفض حادثة الإسراء والمعراج بمنطق رفض اللامعقول؟ وإذا صدّقناها
بمنطق الإيمان، لماذا يكون النوع القديم محل الهزء والعنتريّة؟
ولا يلتزم المؤلف في دراسته بمنهج تفسير مثيولوجيّ معيّن، وإن كان يستفيد
من المناهج الهوميريّ والطبيعي، والمجازي، والرمزي والعقلاني بنسب متفاوته.
والكتاب موزّع على عدّة فصول سألخّصها أدناه:
أوّلاً: الإله النقيض:
تتفق الأساطير والديانات البدائية
جميعاً على أنّ الحالة الأولى للكون كانت فوضى مطلقه، وكان يرمز لها على الدوام
بالظلام والشرّ، وأنها كانت سابقة على ظهور النور والخير. وبما أنّ الإنسان القديم
كان يجسّد ما يخاف منه ويرجوه، فإنه اوجد إلها يجسّد الظلام والشرّ، وآخر يجسّد
النور والخير؛ ففي الديانة الفرعونيّة يمثّل "سيت" الشرّ،
و"أوزيريس" الخير، وفي الديانة الكنعانيّة، هناك "يمّ"
و"بعل"، وفي الديانة الرافديّة "أهرمان"
و"مردوخ"...
هذه المفاهيم انتقلت تطوّريّاً إلى الأديان السماويّة الأكثر تطوّراً،
فالمسيحيّة مدينة بالكثير لعبادة "ميثرا" الفارسيّه. فميثرا، (الإله-القربان
الذي يموت فداءً للبشريّة، والذي انتشرت عبادته في المبراطوريّة الرومانيّة قبيل
اعتناقها للمسيحيّة) سيتطوّر إلى التصوّر المسيحي ليسوع.
ولم يكن التطوّر تصاعديّاً فحسب، فإبليس Diablo أو الشيطان Satan في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام هو تطوّر تنازلي لإله الشرّ
القديم الذي هبطت مكانته مع ظهور الوحدانيّة فاصبحّ مجرّد ملاكٍ متمرّد كان في
الماضي يحتلّ مكانة عظيمة بين الملائكة. فقد إبليس مع الوقت اسمه القديم في
المسيحيّة ("لوسيفر" Lucifer
أو "حامل الضياء") ليصبح الشيطان الرجيم.
وتظهر
هذه الانتقالات بوضوح في الديانة اليهوديّة، لأن التوراة لم تكتب مرّة واحدة،
وأنّما على فترات زمنيّة طويلة ومتباعدة، ومن قبل كتّاب ينتمون إلى أجيال مختلفه،
ممّا أتاح المجال لمتابعة التطوّر في فكرة إله الشرّ المتضاءل. وقد تأثّر اليهود
بقهرهم في مصر، وسبيهم في بابل، وانعكس ذلك على ديانتهم؛ ف"إيل" أو
الإله أو الرب هو نفسه "أيل" كبير الآلهة الرافديّة. وتظهر لاحقة
"إيل" الدالّة على ال "إله" في الأسفار الأقدم، حيث يوجد
"عزازيل" الممثّل لقوى الشرّ،
والكبير القوّة (والذي تحوّل لاحقاً إلى إبليس المتمرّد الملعون)، والجبّار إيل
(أو الإله الجبّار) الذي تحوّل إلى جبرائيل، ولاحقاً جبريل، ولكنّه لم يعد إلهاً
وإنما كبير الملائكة.
ثمّ إنّ أوصاف الملائكة وفقاً للتوراة (وهو
التصوّر الذي تبنّاه القرآن لاحقاً) لا تختلف بشيء عن أوصاف الكائنات العلويّة
المجنّحة السومريّة والبابليّة والتي يورد الكاتب مقولة للمؤرخ ول ديورانت بشأنها
تفيد بأنّ: "اليهود صاغوا آلهتهم من حشد الآلهة العديدة في بابل".
ثانياً:
زهرة للحبّ زهرة للحرب:
تعتبر عبادة الربّة الأم اقدم العبادات، ذلك
أن عمليّة التوالد في نظر الإنسان القديم كانت من خصائص المرأة وحدها، وبما أن
التوالد مرتبط بالخصب، فقد ارتبطت الأرض ودورة الخصب في الطبيعة بربّة أم. ومع بدء
تكوّن المجتمعات الذكريّة بدأت الإلهة الأم تتنحّى لصالح الإله الأب فاقدة دورها
تدريجيّاً إلى ان تحوّلت إلى إلهة ثانويّة
ضمن آلهة عديدة.
وقد كانت ربّة الحبّ من ابرز الآلهة
المؤنثة، والتي كانت أيضاً _وبشكلٍ غريب_ ربّة للحرب أيضاً لدى كثير من الشعوب؛
فالزهرة العربيّة كانت ربّة للحرب في الصباح (وبصفة مذكّرة) وربّة للحب في المساء
(بصفة مؤنّثة)؛ وكذلك كانت عنات وعشتار-إنانا الرافديّة، وافروديتي اليونانيّة،
وفينوس الرومانيّة.
والمثير لللعجب في الأمر أن ربّة الحب
_صاحبة المغامرات العاطفيّة الصريحة_ كانت توصف أيضاً ب"العذراء" في أكثر
من أسطورة، وقد دخلت إلى الديانات السماويّة من عدّة أبواب بشكل مرمّزٍ أو صريح،
فمريم _بالرغم من ولادتها للمسيح_ ظلت تحمل اسم العذراء، بل إن اسمها Mary, Maria, Mare هو لقب كان يطلق على أفروديتي ويعني سيّدة البحر، وMare باللاتينيّة هو البحر. و
في أساطير شرق المتوسّط يصادف عيد عشتار نفس موعد عيد الفصح، حتى أن اسماءه Easter, Ostara, Eastra هي صيغ محرّفة لاسم عشتار.
ثالثاً:
ضحيّة للذكر، قربان للأنثى:
للكاتب رؤية مثيرة للاهتمام في مسألة
الطوطميّه، فهو يرى أنّ الآلهة في الحقيقة أسلافٌ غابرون، وأنّ الإنسان القديم،
الذي كان يرى في الأبّ القوّة التي تحميه وفي الأم الحنان الذي يؤويه، لم يكن
يستوعب حقيقة موت هؤلاء عندما كانوا يموتون، ولذا فإن حدث وأن رآهم في أحلامه
_كونه لم يكن يعرف حقيقة الأحلام بعد_ فإنه كان يفترض بأنهم لا زالوا أحياء ولكن
بشكلٍ آخر، فصار يقدّسهم. ومع الوقت، صار لكل قبيلة ذات نسب مشترك طوطم هو السلف
الغابر، ولهذا تصوّر الإنسان القديم الآلهة على صورته.
ولأن الإنسان القديم كان يعتقد بأن الأسلاف
ضحّوا بحياتهم من أجله، فإنه صار يقدّم قرابين للاحتفال بهذه التضحية. ويذكر
الكاتب أنّ القرابين في الفترة الأموميّة الزراعيّة كانت بشكلٍ أساسيّ من
النباتات، ولاحقاً، عندما سيطر الذكرودجّن حيوانات أكبر _زادت من الانتاج الزراعي
ومكّنته من التحكم بالانتاج، وبالتالي بالمجتمع_ اصبحت القرابين اضحية من
الحيوانات، وبخاصّة التيس أو الخروف الذي كان رمزاً للفداء الأوّل العظيم: فداء
الأب. ولهذا فإن الآلهة القرابين كآتيس، الذي كان رمزه التيس، ودموزي الراعي،
ولاحقاً المسيح "حمل الله الويع" كانوا يوصفون بالخاروف، أو الحمل،
وكلّهم قدّموا أنفسهم فداء.
رابعاً:
القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث:
يربط الكاتب هنا، مسترشداً باشتقاقات لغويّة معقولة،
ما بين عبادة القمر والأضحية، منتقلاً من هذا الأساس إلى تطوّر الثالوث في أديان
المنطقة. فالهلال ذي القرون التي تشبه قرون التيس دخل الى العبادة كرمزٍ للأب-الأضحية.
وبما أن بقايا العبادات المتخلّفة من المجتمع الزراعيّ الأموي لم تكن قد اندثرت
بعد، فقد كان أدمجت العبادة الجديدة نفسها في عبادة ثالوث من القمر (الجديد) والشمس
والزهرة (القديمان)؛ مثلّث كان ترتيب أضلاعه يتباين شيئاً بسيطاً من إقليم إلى آخر،
ولكنّه يحافظ على نفسه. انتقل الثالوث إلى المسيحيّة، ولكنّه توقف عند الإسلام
الذي أبقى منه ضلعه الأكبر
"الهلال" (وهو رمز للإسلام)، واحتفظ له برمزيّة التضحية، حيث أن عيد الأضحى
يقرر موعده القمر.
ويصل
الكاتب إلى أن الديانة الأقدم من الديانات السماويّة الثلاث كانت ديانة
تعدّدية، تطوّرت من مجمّع آلهة يضمّ
"إيل"، وإناث ياهو" (أو الأنثى ياهو)، وياهو أو يهوه الابن، إلى
ديانة توحيديّة. ويستدلّ على ذلك من عدّة قرائن منها نقشّ أوغاريتيّ عن الإله
إيل كتب فيه "اسم ابني ياهو".
خامساً:
مدخل لفهم الدور التاريخي للأساطير التوراتيّة:
في الالف الثاني قبل الميلاد، انساح اليهود
ضمن شعوب عديدة من الجزيرة هاجرت باتجاه الهلال الخصيب. عمل هذا الشعب على تثبيت
ذاته في المنطقه بوعي تاريخيّ متميّز، إذ استوعب كل أساطير المنطقة في دينه، وهضم
التراث الناتج عن تراكم الخبرات القديمة ذات العلاقة بالأرض وطبيعتها. لقد وعى
اليهود كل ذلك ثمّ تمثّلوه، فاتصلوا بجذور المنطقة، وبدو كشعبٍ يحمل تراثاً
عريقاً.
وبتفهّمهم لدور الدين، احتكر اليهود
النبوءات جميعاً في نسلهم واصلابهم، حتّى أن الإسلام اعترف لهم بذلك. ويظهر أثر
النقل في التراث اليهودي وفقاً للكاتب في كون الدراما التوراتيّة غير متناسقه،
وتتكوّن من أجزاء مقتطعه، بينما تبدو أكثر تماسكاً وانسياباً في سياقها البابليّ
الأصلي، أو الكنعاني، أو السومري. (اسطورة الطوفان وأسطورة الخلق أصبحتا قصّة
التكوين، وجلجامش أصبح النمرود بن كنعان وهلمّ جرّاً...)
ويبحث الكاتب هذه النقطة الأخيرة بتفصيل
أكبر، مفترضاً بأن وعينا المزيّف بحقيقة تراثنا يعود بجزء منه إلى كوننا قد
تلقّينا هذه الأساطير معادة التصدير يهوديّاً بحيث تخدم تصوّراتهم أكثر مما تخدم
الحقيقة:
· الملوك الأربعه: يناقش الكاتب أربعة من
الشخصيات التي ورد ذكرهان أو أشير إليها في التوراة والقرآن وهي الملكان المؤمنان
سليمان، وذي القرنين، والملكان الكافران النمرود بن كنعان ونبوخذ نصّر. مرتئياً
بأن كلّ ما أطنب به الكتّاب المسلمون عن سليمان لا يعدو كونه نقلاً حرفيّا عن
اليهوديّة، وأنّ محاولاتهم "عربنة" و"اسلمة" ذي القرنين كانت
محاولات متناقضة ومكشوفة؛ إذ ليس ذو القرنين سوى الأسكندر المقدوني
"الكافر"، الامر الذي أوقعهم في جدلٍ لا منته عن مدى صحّة إسلامه ونسبه.
أما النمرود بن كنعان، فقد أساء النقلُ الإسلامي عن اليهوديّة بخصوص هذا الرجل إلى
الجنس العربيّ برمّته، فهو شرّ مطلق لا يستطيع حتّى أن يكون شرّيراً بذكاء، ولا
يسعه سوى الإغراق في غرورٍ وغباء لا يطاقان. وأخيراً، يقتنع كتّاب التراث المسلمون
بمركبات العقد اليهوديّة الناشئة عن السبي البابلي والقهر المصري، ويصوّرون نبوخذ
(أو بخت) نصّر، والذي طرد اليهود من فلسطين، بصورة الوحش الكافر الذي ليست له ذمّة
ولا ضمير.
· النسخ في الوحي:
يناقش الكاتب أنواع
النسخ الثلاثة في الوحي وهي:
-
ما نسخت تلاوته وبطل حكمه.
-
ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته.
-
ما نسخت تلاوته وبقي حكمه.
يبحث الكاتب في
تاريخيّة النص، وفي علاقة الزمن المتحرّك بحركة الواقع الدائم التحوّل، وعلاقة
التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة بالنصّ الدينيّ، وما تقتضيه من تعديل بنسخ او
تثبيت الوحي، وهو يثبت ذلك عبر النصوص القرآنيّة والاحاديث، عارضاً المواضيع التي
تناولها النسخ. وهو يلمح إلى أن معظم الموضوعات التي تناولها النسخ كانت
سياسيّة-اجتماعيّة في معظمها، كالموقف من المشركين وأهل الكتاب، والمدى المسموح به
من الحريّة الدينيّة.
سادساً:
مداخلات في الخاتمه:
يرفق
المؤلف بكتابه مداخلات للدكتور حسن حنفي
والدكتور نصر حامد أبو زيد تعليقاً على كتابه.
تم: على الأرجح عام 1995