Pages

Thursday, 22 December 2011

"أن تكون (قوّة نوويّة) أو لا تكون" إيران في التصوّر الأمريكي للشرق الأوسط الجديد في ضوء التغيّرات الحاليّة في المنطقة و القادمة في الإدارة الأمريكيّة





"أن تكون (قوّة نوويّة) أو لا تكون"

إيران في التصوّر الأمريكي للشرق الأوسط الجديد في ضوء التغيّرات الحاليّة في المنطقة و القادمة في الإدارة الأمريكيّة 

                                                           


                                                         س.ر. شلبي











الإهداء:

إلــــــــــــــــى روح أخـــــــــي الأصغر
صبـــري

علّها تجد سلامها الخاص في وجود أجمل
بعيدٍ عمّا هو قادم




I-                 المقدّمة و الإطار النظري:

          قد يكون الإيرانيون تذكّروا قصّة الثيران الثلاثة في اللحظة التي "بشّر" فيها  الرئيس الأمريكي جورج بوش العالم بميلاد عصر جديد من تاريخ منطقة الشرق الأوسط مع أول انتخابات "ديمقراطيّة" في العراق، بغضّ النظر عن أيّة رؤية كانت أو لا زالت لديهم لدورهم في الإقليم؛  فأول الثيران الذي عاند الترتيبات الأمريكيّة للحظيرة الشرق أوسطيّة الجديدة قد لاقى مصيره المحتوم، تاركاً الثيران الباقيّة في مواجهة القادم و قد أضحت  أكثر شكّاً و تخوّفاً من بعضها البعض مما هو قلقها على من المصير الجمعي للقطعان المختلفة في الحظيرة الجديدة.

          و بالرغم من أن القوى المختلفة في الإقليم باتت تدرك بأن الترتيبات الأمريكيّة الجديدة هي حجر زاوية في المشروع الأمريكي الأوسع لإنشاء إمبراطوريّة عالميّة مهيمنة، وحيدة القطب إقتصاديّاً و عسكريّاً و سياسيّاً، إلا أن غرقها في همومها الذاتيّة  و مخاوفها من بعضها البعض، إضافة إلى قابليّة الإقليم العالية للاشتعال، مع هشاشة الأنظمة القائمة في الجزء العربي من الإقليم و أزمتها القياديّة، تجعلها غير قادرة حتى الآن على تكييف، أو التأثير على الترتيبات الجديدة بحيث تؤثّر في  أي توازن تسعر القوّة العظمى لتحقيقه في الإقليم لصالحها.

          القوّة الوحيدة التي تشارك، بل و تصوغ مع الولايات المتّحدة تصوّرها للإقليم هي إسرائيل، و التي فرضت على المشروع شرط قبولها كقوّة مزدهرة و أولى من قبل جيرانها. و هي التي تنتقد أساس سياسة بوش القائمة على أن التغيير يأتي من خلال الديمقراطيّة و ترميه بالسذاجة. و هي التي باتت تشير الآن باتجاه إيران، التي عزّزت من قوّة مليشياتها في العراق سياسة "الدمقرطة" الأمريكيّة، و التي تحرّك الوضع في لبنان، و تقف على أعتاب المرحلة النوويّة..

          و من الواضح أن هذه المخاوف الإسرائيليّة قد آتت ثمارها لدى إدارة بوش التي لديها تصوّر لا يختلف كثيراً عن تصوّر إسرائيل، مما يجعل من  "الثور" الإيراني هو المرشّح القادم على مذبح الترتيبات الجديدة. و مع المشاكل الاقتصاديّة التي يعاني منها نظام الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ، و التحديات التي تواجه أمنه القومي، و التي دخلت مرحلة جديدة أعلى،  يكون من الأهمّيّة بمكان التساؤل عمّا إذا كان ما يجري من تفاعلات داخليّة و  إقليميّة و دوليّة قد يجعل إيران تراجع رؤيتها لدورها و طموحاتها الإقليميّة، و تعيد النظر في مجمل سياستها الخارجيّة و الداخليّة  التي يبدو أنها لم تعد قادرة على الحفاظ على التوازن بين مطلب صون استقلال البلاد و مواجهة التحديات و الضغوطات الدوليّة، و خصوصاً الأمريكيّة. أو –على العكس من كل ذلك-أن ما يجري سيجعلها  تعمل على شراء الوقت في انتظار أن تمنحها أزمة الولايات المتحدة في العراق، مع ما يجري في داخل تلك القوّة العظمى من تغييرات داخلية، أن تمنحها هامشاً يكفي لأخذ أكبر مساحة ممكنة في الترتيبات الإقليميّة الجديدة.

          و هنا تقف إيران أمام معضلة؛ فالولايات المتحدة ترفض الدخول في مفاوضات معها، انطلاقاً من عقيدة بوش بأن القوّة العسكرية قادرة على إعادة صياغة الحقائق السياسيّة. و هو الذي أعلن بوضوح أنه لن يقبل بإيران نووية مطلقا، بينما تصرّ إيران على مشروعها النووي. و قد يكون أكثر ما يخشاه الثور الإيراني الآن هو أن ينجح بوش في عزله بإقامة تحالف عربي ضده. الأمر الذي لا يبقي أمامه سوى الاستفادة من موقف  الحليفة الأولى لبوش في المنطقة، إسرائيل،  و التي  تخشى من الثمن الذي قد يطلبه العرب بشأن القضيّة الفلسطينية لقاء هذا التحالف.

          و قد بدأت إيران بالسير على هذا المسار بمد الجسور مع حماس التي أوصلتها الانتخابات الديمقراطيّة إلى سدّة السلطة الفلسطينيّة، و توطيد تحالفها مع المرشّحة الثانية للمذبح،سوريا،  لتحريك الأحداث بشكل يساعدها على كسب الشارع العربي و الإسلامي. و قد آتى التحرّك ثماره، إذ  أصبح للوجود الإيراني وزنه بعد حرب اسرائيل و حزب الله الأخيرة، و الفشل الأمريكي في خلق ديمقراطيّة يسيطر عليها الشيعة في العراق. فحزب الله المدعوم إيرانيّاً علم بأن إسرائيل، تنفيذاً للرؤية الأمريكيّة التي ترى في ضرب حزب الله إحتواء للنفوذ الإيراني،  كانت ستجتاح لبنان في كل الأحوال  لضربه، فقام بفرض شروط النزال بخطوته الاستباقيّة. و هو قد نجح عبر قدرته على الوصول الى عمق اسرائيل في جعل يد ايران أطول في الشرق الأوسط، و بات الثور الإيراني و حليفه السوري شوكة في خاصرة إدارة بوش التي يغلل يديها الآن كونغرس ديمقراطي بدأ يتحدّث عن تفاوض بشكل أو بآخر مع الإيرانيين. حتى أن  بوش نفسه   قد عين كسكرتير ثاني للدفاع روبرت غيتس المعروف بانتقاده للإدارة الأمريكيّة لعدم شروعها في حوار مع إيران.

          و لكنّ الولايات المتّحدة، التي بات واضحاً أنها تدرك أبعاد تطاول أذرع  إيران في الشرق الأوسط قد نجحت من خلال الإعدام المثير للجدل لصدّام حسين، في إحداث صدع ما بين السنّة و الشيعة، و تحجيم تعاطف الشارع العربي مع إيران. و لم تنجح إيران في توقّع ذلك، أو الحدّ من تأثيره، و ربّما لم تسع لذلك، مما يعيدنا إلى مربّع التساؤلات الأول حول رؤية إيران لطبيعة دورها في المنطقة، و علام ترتكز من أجل تحقيقه.

          و على أيّة حال، يبدو إذن أن التغيير قادم للسياسة الأمريكيّة في الشرق الأوسط.، و أن المحافظين الجدد الذين رسموا سياسات الشرق الأوسط لمدّة 6 سنوات سائرون على طريق الهزيمة كما يبدو من انتخابات الكونغرس.

          كيف ستتصرف إيران إذن؟ و كيف ستتعامل الولايات المتحدة في ضوء التغيرات القادمة في إدارتها، و أزمتها في العراق، و مطالب حليفتها إسرائيل، و ما يجري مع حلفاءها العرب؛ كيف ستتعامل مع مطالب إيران؟ و كيف سيكون شكل سياستها الخارجيّة تجاهها؟ هل تنجح إيران في فرض شروطها لدخول حظيرة الشرق الأوسط الأمريكيّة؟ و هل تدخل نوويّة أم تقليديّة؟ ما هو الثمن الذي تدفعه القوى في المنطقة مقابل "شرق أوسط جديد" يلبّي مطالبها، أو الجزء الأكبر منها في ضوء كل ما سبق..

          و بسبب طبيعة الظاهرة مدار البحث، و التي تنضوي تحت بند الصراعات في النظام الدولي، فقد آثرت الدارسة استخدام النظريّة الواقعيّة، و بالذات الواقعيّة الجديدة كما هي لدى كينيث فالتز Kenneth Waltz،  كإطار نظريّ للدراسة، كونها تعنى بتحليل المتغيّرات ضمن نظام System ، عبر تكوين علاقات سببيّة بين هذه المتغيّرات على مستويات التحليل الثلاثة:  الفرد و الدولة و المجتمع.

          و وفقاً للواقعيّة فإن الصراع في الشرق الأوسط يجري في إطار النظام الدولي الذي يتّسم بالفوضى حيث تسعى قوّة ذات القطب الواحد للحفاظ على دورها الريادي في النظام الدولي بالتأثير على ترتيبات و توزيعات القوى في إقليم حيويّ تؤثّر توازناته و ترتيبات القوّة فيه على توازنات القوى الدوليّة، و يلعب الخوف دوراً كبيراً في سياسات دوله المختلفة.

          و يرى الواقعيون الجدد أن التركيب الكلّي Overall structure للنظام الدولي يؤثّر على سلوك الدول، و على مفاهيم صُنّاع القرار أيضاً ،و يقرّون –كالليبراليين، بأن حراك المجتمعات و طبيعتها بدوره  يؤثّران على مفاهيم صنّاع القرار، مما يساعد على تفسير الإشكال بين حسابات بعض  الأنظمة و توجّهات مجتمعاتها، كما يفسّر ما قد يبدو سلوكاً غير عقلاني للدول و متناقض مع حسابات أمنها القومي

          و تهتمّ الدارسة بإيران كدولة أكثر منها  كنظام ذي مستويات مختلفة ، كما تنظر إلى التغيّرات السياسيّة  الداخليّة في الولايات المتحدة فقط من حيت كيف تنعكس على سياساتها الخارجية كدولة، و لذا فسوف تقوم باستخدام مستويات تحليل ما دون الدولة sub state level of analysis لتفصيل أو تأكيد أو شرح ما يتم استنباطه من دراسة المتغيّرات على مستوى تحليل الدولة.

          و بما أنه لم تعد هناك حدود مقدّسة بين النظريات كما كان عليه الحال في الخمسينات، فقد تستعين الدارسة ببعض المفاهيم من النظريّة الليبراليّة، خصوصا ًفي مجال تفسير دور العوامل الاقتصاديّة في التأثير على حسابات القوى المختلفة في النظام الدولي الذي يتحرّك، وفقاً لليبراليين،باتجاه  تكريس الإمبرياليّة و إعادة توزيع الثروات باتجاه دول المركز الصناعيّة، و قد تساعد المفاهيم النظريّة لليبراليّة في إبراز دور المشاكل الاقتصاديّة التي يعاني منها نظام الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة في قرار الدولة السياسي.

و تقع الدراسة في أربع محاور:

·        شرق أوسط جديد: الطرح الأمريكي من حيث الجغرافيا و المضمون.
·        الأجندة الإيرانيّة في الشرق الأوسط: كيف تصطدم أو تتفق مع الرؤيا الأمريكيّة.
·        إيران و العرب.
·        سيناريوهات محتملة في ضوء الوقائع في الشرق الأوسط و التغيّر في الإدارة الأمريكيّة.


II-              إشكاليّة الدراسة:

          تكمن إشكاليّة الدراسة في رصد  المتغيّرات المختلفة للدراسة، إذ يوجد  عدد كبير  من المتغيّرات المتدخّلة يوجد بين بعضها تأثير عمودي، و بينها و بين أخرى تأثير متبادل.
و قد إرتأت الدارسة أن يتم تسطيح العلاقة بين هذه المتغيّرات تحقيقاً لغرض البساطة.

III-          محددّات الدراسة:

         تشكو الدراسة من قلّة المصادر الأصليّة اللازمة للبحث، ذلك أن القضيّة مدار البحث لا زالت تتشكّل، و تتفاعل متغيّراتها بسرعة، مما يُصعّب على الدارسة متابعة تفاصيل بعض تداعياتها، خصوصاً مع عدم توفّر أدوات بحثيّة من مثل المقابلات، و الوثائق الرسميّة الحديثة التي يمكن لها أن تدعّم البحث.

IV-          مصطلحات الدراسة:

·       الردع النوويDeterrence:

هو استخدام أدوات الحرب النوويّة و وسائلها لمنع وقوع مثل تلك الحرب، و ذلك باستخدام القوّة و هي في حالة السكونStatic. و إذا تحرّكت القوّة لخوض المعركة يكون هذا فشلاً كاملاً للردع. و في المفهوم الإسرائيلي –الأمريكي فإنه لا يمكن للسلام في المنطقة أن يستقرّ –حتى لو كان سلاماً مفروضاً- إلّا بتوفّر القوّة المتفوّقة نوعيّاً، و التي تردع العدو عن التفكير بالعدوان.
و لا يستدعي الردع النووي بالضرورة التوازن النووي.، ولكن معيار الردع النووي يتوقف على عاملين: القدرة على تدمير المراكز المدنية الهامة، والقدرة على امتصاص الضربة النووية الأولى.

·       التفوّق النوعي:

يقوم المفهوم على أساس أن من حق إسرائيل منع أيّة جهة إقليميّة معادية لها في المنطقة من أن تمتلك قوّة عسكريّة قادرة على تهديد أمنها.

·       نظام الفوضىAnarchy:

"غياب حكومة أو هيئة مركزيّة عالميّة تفرض على الدول ذات السيادة الانصياع للقانون الدولي. و وفقاً للواقعيّة فإن الفوضى هي السمة الأساسيّة للنظام الدولي" (براري. أمن إسرائيل: صراعات الأيديولوجيا و السياسة).

·       الانتشار النووي:

هو أيّة زيادة في كميّة الأسلحة النوويّة التي توجد في حوزة الدول المالكة للسلاح النووي (الانتشار الرأسي)، و تصنيع السلاح النووي أو الحصول عليه بواسطة الدول التي لا تملكه، بمعنى زيادة عدد الدول التي تملك أسلحة نوويّة (الانتشار الأفقي).

·       الاستراتيجيّة:

هي التعرّف على "أفضل طريقة لبلوغ الهدف و التوصّل إلى أنجع طريق يؤدّي إليه في أحسن الظروف الممكنة من خلال استغلال نقاط القوّة و التغلّب على مناطق الضعف". و هي تتطلّب القيام بخيارات حول "أقور الأفكار التي ستمثّل المحور الأساسي للجهود التي ستخضع إليها الأهداف و الوسائل، و الأولويّات". (الرشيدي، الاستراتيجيّة الأمريكيّة الجديدة في العالم)

V-             أسئلة الدراسة:

ý     ما هو تأثير إيران كقوّة إقليميّة في رسم التصوّر الأمريكي للشرق الأوسط الجديد؟
ý     ما هي العوامل الأخرى التي تحدد تصّورات الإدارة الأمريكيّة لدور و وزن إيران في الشرق الأوسط الجديد؟
ý     أي من هذه العوامل تلعب دوراً حاسماً في رسم السياسات الأمريكيّة تجاه إيران؟
ý      ما الذي تريده إيران كقوّة إقليميّة في ظلّ توازنات القوى القائمة و الهيمنة الأمريكيّة؟
ý     كيف ستتعامل إيران مع المخطط الأمريكي للشرق الأوسط الجديد؟
ý     هل تنجح إيران في فرض مكان لها في هذا " الشرق الأوسط الجديد"؟
ý     كيف توازن إيران بين مصالحها الإقليميّة و الضغط الدولي المقاد أمريكيّاَ و إسرائيليّاً ضد امتلاكها للقدرة النوويّة؟ ؟
ýفي ظل التحولات السياسية الجارية الآن في الولايات المتّحدة ما هي السيناريوهات المحتملة تجاه إيران؟
ý     بعد الإجابة على كل ما سبق، كيف سيكون شكل التحالفات القادمة في المنطقة؟


VI-          فرضيات الدراسة:

ý     لا تستطيع الولايات المتحدة تجاهل إيران في تصوّراتها للشرق الأوسط الجديد و لكنها ستسعى إلى تحجيم دورها.
ý     القدرة النووية إحدى ركائز التصوّر الإيراني لدور إيران كقوّة إقليميّة في المنطقة.
ý     ستستمر الولايات المتحدة في جهودها لتشكيل تحالف دولي بهدف منع إيران من الوصول الى التكنولوجيا النووية.
ý     تلعب إسرائيل و اللوبي  اليهودي في الولايات التحدة دوراً رئيساً في السياسة الأمريكيّة تجاه إيران.
ý     تعمل إيران بالتحالف مع سوريا على تحريك الشارع العربي بهدف كسب الوقت قبل أن تنجح الولايات المتحدة في تشكيل تحالفات ضدها في المنطقة العربيّة.
ý  يشكّل المأزق الأمريكي في العراق عاملاً محبطاً، و لكن ليس بالضرورة حاسماً، لأية خطّة أمريكيّة لمواجهة قريبة مع إيران.
ý  ستسعى  إيران إلى كسب الوقت بينما تتفاعل أزمة الولايات المتحدة في العراق، و تتبلور صورة الإدارة الأمريكيّة الجديدة، و ذلك لصالح تعزيز دورها و قوّتها في أيّة ترتيبات شرق أوسطيّة جديدة.

VII-      منهج الدراسة:

تتبع هذه الدراسة المنهج التحليلي التاريخي.

VIII-   متغيّرات الدراسة:

*    المتغيّر المستقّل: السياسة الأمريكيّة تجاه إيران.

*    المتغيّرات المتدخّله Intervening :

أ‌.        مصالح إسرائيل.
ب‌.    المصلحة الأمريكيّة في استقرار منطقة النفط في هشاشة الأنظمة العربيّة و أزمتها القياديّة.
ت‌.    مصالح الأنظمة العربيّة و مدى تعاونها مع الرؤيا الأمريكيّة.
ث‌.    الصراع العربي الإسرائيلي و قضيّة فلسطين.
ج‌.    حصول إيران على القدرة النوويّة.

*    المتغيّر التابع:

أ‌.        وجود إيران كطرف في الشرق الأوسط الجديد، و مدى دورها.
ب‌.    توجهات إيران تجاه المشروع.

IX-          الدراسة:

1-   شرق أوسط جديد: الطرح الأمريكي من حيث الجغرافيا و المضمون:

          لم يهبط مشروع الشرق الأوسط مرّة واحدة و بوحي من السماء على المبشّرين به من المحافظين الجدد، و لم يكن بالدعوة الجديدة، فهو تطوّر لصياغات أمنيّة و عسكريّة و سياسيّة وُجِدت منذ الخمسينات من القرن الماضي من مثل البيان الثلاثي و منظّمة الدفاع عن الشرق الأوسط، و معاهدة حلف بغداد و غيرها من الأطر التي نشأت في أجواء الحرب الباردة. و لكن المشروع اكتسب بعداً جديداً من القوّة عندما طرحته إدارة بوش الأب مع إطلاق مفاوضات مدريد للتسوية العربية – الإسرائيلية في العام1991،  و ساعد في بلورته شمعون بيريس عندما أصدر كتابه عام 1993 و الذي دعا فيه الى جمع دول المنطقة في سوق مشتركة يتم دمج إسرائيل فيها بعد اعادة تشكيل المنطقة من جديد.

          و بقي المشروع في طور الكمون ليعاود الانبعاث من مرقده بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، و ليجد له صياغة تتفق وإعلان استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في سبتمبر 2002. و جاء الاحتلال الأمريكي للعراق في 9 أبريل 2003، ومشروع الحرية الذي أعلنه الرئيس بوش في خطاب تنصيبه للولاية الثانية، ليباشر تنفيذ ما توقّف في تسعينات القرن الماضي.

          ولإضفاء المصداقيّة على الموضوع استخدمت الإدارة الأمريكيّة تقرير التنمية البشريّة العربيّة الصادر عام 2003  و الذي دعا إلى تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح في المنطقة والى بناء مجتمعات معرفيّة في البلدان العربية والى توسيع الفرص الاقتصادية وبناء اقتصاديات عربية تواكب التطور الهائل في الاقتصاد العالمي وتوفر فرص العمل لعشرات الملايين في السنوات القليلة القادمة، استخدمته لتدعيم مشروعها الخاص، رابطة ما بين نشر الديمقراطيّة و حربها على الإرهاب،  و من ثم  قامت  لمشروعها تحمله محاولة تسويقه الى قمة الثمانية الكبار التي انعقدت في ولاية جورجيا في الولايات المتحدة ، والى قمة حلف شمال الاطلسي ، التي انعقدت في اسطنبول في تركيا، والى قمة الاتحاد الاوروبي ، التي انعقدت في بروكسل مستفيدة من الاتفاق الغربي الحاسم على التغيير في الشرق الأوسط، خاصة بعد تزايد الأعمال الإرهابية.

           وقد أثار المشروع مخاوف و ردود فعلٍ مختلفة لدى القوى الدوليّة، ليس أقلّها هو الخشية من أن يكون المشروع غطاء للرؤية الاستراتيجيّة الأمريكيّة التي تسعى لفرض هيمنتها على الشرق الاوسط وبناء موقع امني استراتيجي متقدم للولايات المتحدة الامريكية يستهدف مد هذه الهيمنة على أوراسيا برمّتها وصولا إلى تطويق روسيا و الصين و السيطرة على منابع النفط؛ و لذا تقدّمت العديد من القوى بمبادراتها الخاصّة و التي وجدت تعبيرها في موجة من المبادرات و الطروحات  التي تعامل معها الأمريكيّون بمرونة لغرض دمج هذه المبادرات وتركيبها في مبادرة واحدة لا تبتعد كثيرا عما تسعى استراتيجيّة أميركا نحوه من تغيير لصالحها في الإقليم.

           و على هذا تابعت  الولايات المتحدة الأمريكية انتهاج سياسة مرنة في التعامل مع الأطراف الأوروبية، فعقدت مؤتمرات ومنتديات عدة من أجل كسب تأييد هذه الدول لخطتها حول " الشرق الأوسط الكبير "،  مقدّمة تنازلات لفظية حول أسلوب تطبيق الخطة، مع تمسك عنيد ببنود الخطة نفسها، وقالت  إنها تؤيد التدرج في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، بل وتؤيد أن تكون هذه الإصلاحات نابعة من الدول نفسها وليست مفروضة عليها، وتم تسجيل ذلك في البيانات الرسمية الصادرة عن هذه المؤتمرات والمنتديات والمؤسسات الدولية. و من ثم انبرت تنفّذ مشروعها في العراق، بينما تراقبها الدول الكبرى عن كثب، و تتنحّى الصغرى –حتّى ذات العلاقة- جانباً.

          و مع الوقت، أصبح واضحاً للجميع أن هناك ثمّة مسافة معتبرة ما بين القيمة الشكليّة للمشروع، و ما يتحقق فعليّاً على أرض الواقع، خصوصا مع وجود البرهان الحي على التطبيق الأوّل له؛  فالعراق لم يتحول الى نموذج ديمقراطي يحتذى به لمواصلة مشروع الشرق الاوسط الكبير أو الجديد ، وسياسة الادارة الامريكية غرقت في مستنقع ما بين النهرين ، بينما لم يؤد نشر الديمقراطية إلّا إلى تعزيز دور قوى معادية لأمريكا و مشاريعها و وصول بعضها  إلى الحكم. و هكذا تكون الديمقراطيّة قد أسهمت  في دعم مواقف قوى ودول الممانعة ، بما في ذلك الجمهورية الاسلامية في ايران ، التي تسعى جاهدة لامتلاك التكنولوجيا النووية ، بدلاً من خدمة المشروع الذي قد يجد نفسه مكشوف الوجه في مأزق قد لا يكون منه فكاك .
         
1.1: المضمون و الأسس:

يرتكز مشروع الشرق الأوسط الجديد على المحاور التالية:

  • تحقيق سلام حقيقي بين العرب و إسرائيل يؤدّي إلى دمجها في المنطقة:

          و يتفق زعماء بريطانيا وفرنسا وكندا وألمانيا وايطاليا واليابان وروسيا مع الولايات المتحدة على أنّ انهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يأتي على قمة الاولويات غير أنه لاينبغي أن يتخذ ذريعة لعدم تحقيق الإصلاح.

  • الإصلاح السياسي :

           و هو الوسيلة لغاية الوصول  إلى الاستقرار السياسي و تحقيق الأمن لدول الإقليم، و يقوم على حكم رشيد ديمقراطي، و تداول سلمي للسلطة، و احترام للحريات العامة و حرية الصحافة، و مساواة المرأة، و فصل السلطات و استقلال القضاء، و الأمن الشخصي و العدالة .

            و تجدر الإشارة هنا  إلى رؤية إدارة بوش التي استنتجت من أحداث 11 أيلول 2001، ، أن التكوين الاستبدادي القائم في بلدان الشرق الأوسط يؤسس لنشوء الإرهاب، وأن مجمل القيم المستندة إلى الدين الإسلامي تنتج الإرهاب الذي بات يهدد المدينة الحديثة، ويسعى لتدمير القيم التي تقوم عليها الحضارة، و منها الديمقراطية والحرية و نمط الحياة الغربيّة، لهذا فعلى أمريكا أن تبلّغ رسالتها بنشر الديمقراطية والحرية، ومعاقبة الدكتاتوريين والمستبدين، و"تعليم" الشعوب كيف تمارس تلك القيم الإنسانية النبيلة.

  • الاصلاح  الاقتصادي :

           و هو الذي يؤدّي إلى علاقات تعاون اقتصادي قويّة، و انفتاح على الاقتصاد العالمي.

  • احترام حقوق الإنسان وحماية حقوق الأقليّات:

  • علاقات حسن جوار طبيعيّة بين دول الإقليم:

    و ينطوي هذا على دمج إسرائيل سياسيّاً و اقتصاديّاً و أمنيّاً في الإقليم.

  • مكافحة الإرهاب:

          هناك من يرى في جوهر كل المشروع، بما يمنحه من وعود التنمية و الاستقرار و السلام و  الانفتاح على العالم الخارجي من موقع المساواة والشراكة "جزرة" تمنحها أمريكا للعرب  مقابل تعاونهم  مع مشروع امريكا ضد الإرهاب و الذي يعتبر المحور الأساسي في المشروع الأمريكي.

2.1: الجغرافيا:
          لا بد من الإشارة منذ البداية  إلى أن "الشرق الأوسط" هو تعبيرذو دلالة أيديولوجيّة، و يعبّر عن منطقة "ذات جغرافيا متغيرة"بدليل أن المصطلح، الذي صنعته فرنسا و إنجلترا من خلال اتفاقيّة سايكس بيكو عام 1916، و كان يقتصر على مصر وفلسطين والشام، صار يعبر عن مدلول جغرافي آخر مغاير بعد هزيمة النظام الناصري والمد القومي العربي عام 1967 على يد إسرائيل المعومة أمريكيّاً؛ و صار بعد حرب عام 1967 - في إطار قرار مجلس الأمن رقم 242-  يشير فقط إلى الحيز الذي تشغله الدول التي دخلت حرب 1967.
          و مع نهاية الحرب الباردة و زوال الاتحاد السوفييتي، و بدء مشروع التسوية بعد حرب الخليج الثانية، أعادت أمريكا صياغة جغرافيا المنطقة المفترضة عبر طرح صيغة ملائمة لإدخال إسرائيل في "منطقة ينزع عنها مواصفات الجغرافيا التاريخية وسمات التاريخ الحضاري والثقافي، ويشدد فيها على الجغرافيا الاقتصادية المعاصرة في نظام السوق العالمية، ليخلق فيها نواة سوق شرق أوسطية تتوسع بالتدريج انطلاقًا من إسرائيل كنواة ودورها كقوة جاذبة ومهيمنة اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وأمنيًّا". (ثابت، 2004)
          و بعد حرب الخليج الثالثة، و الإطاحة بنظام صدّام حسين و احتلال العراق، و سعت إدارة بوش و المحافظين الجدد من حدود المشروع عبر إعادة صياغة كاملة للخريطة الجيو إستراتيجية للمنطقة العربية تتضمن تذويب ما تبقى من بقايا النظام الإقليمي العربي، والعمل على خلط المقومات الثقافية/ الحضارية العربيّة و الإسلاميّة عبر تذويب هذا الفضاء السياسي الجغرافي التاريخي الثقافي المشترك في فسيفساء عرقيّة و طائفيّة  تقع ضمن نطاق إستراتيجي أوسع يمتد من بحر قزوين وشمال القوقاز شمالاً وشرقًا إلى المغرب غربًا (Ibid)
          و قد نشرت مجلّة القوّات المسلّحة الأمريكيّة Armed Forces Journal خريطة تصوّر التغيّرات الجغرافيّة المحتملة في خريطة الشرق الأوسط وفقاً للرؤية الأمريكيّة، مبيّنة ما قبل و ما بعد "العمليّة التجميليّة لجغرافيا المنطقة"، و التي تعيد تقسيم المنطقة جغرافيّاً لتشمل دولاً دينيّة و عرقيّة.
و الخارطة مرفقة بتقرير أثار الجدل كتبه "'رالف بيترز" الكولونيل السابق في الجيش الأمريكي،  و الذي خدم في شعبة الاستخبارات العسكرية أيضاً، يدّعي فيه بأن الغاية من هذا التعديل على الخريطة هي تحقيق عدد من الأهداف الإنسانية التي تتعلق بالعدل والديمقراطية والتوازن و إنهاء الظلم الذي تعاني منه بعض الأقليات في الشرق الأوسط منها الأكراد، والبلوش، والشيعة العرب. ومحاربة الإرهاب بشكل كامل بواسطة القوات الأمريكية المتمركزة في المنطقة وحلفائها من الدول المحلية أو العالمية بالإضافة إلي تأمين تدفق النفط بشكل تام وكامل للغرب دون أي قيود
  
 
          ويشير التقرير إلى  أن "هذا التغيير في الحدود المرسومة حاليا وتعديلها لإيجاد شرق أوسط جديد لا يمكن أن يتم بسهولة وسرعة لأن إعادة تصحيح الحدود الدولية تتطلب توافقا لإرادات الشعوب التي قد تكون مستحيلة في الوقت الراهن ولضيق الوقت فإنه لابد من سفك الدماء للوصول إلي هذه الغاية". (شبكة البصرة، 2006)
          و بهذا قد تكون هذه المنطقة التي سمّيت أبداً بأسماء لا تنبثق من خصائصها بقدر ما ترتبط. بالغير أمام مفهوم جغرافي و سياسيّ جديد يهدّد  بتمزيق أوصالها و إعادة خلط أوراقها كافّة في ما يشبه سايكس-بيكو جديد.

2-   الطرح الأمريكي للشرق الأوسط الجديد ما بين القيمة الشكليّة و السياسات على أرض الواقع:

          لفهم حقيقة الغاية الأمريكيّة من مشروع الشرق الأوسط الجديد ينبغي  فهم المرتكزات الكبرى في استراتيجية الامن القومي الاميركية NSS  و التي ترسم مسار السياسة الأمريكيّة في العالم ككلّ، و في منطقة الشرق الأوسط، و التي تحدّدت ما بعد الحادي عشر من أيلول في:

  • منع تكرار الحادي عشر من أيلول عن طريق شن الحرب ضد الإرهاب أينما كان و منعه من الوصول إلى أسلحة الدمار الشامل.
  • منع قيام أي منافس لها على صعيد الدول الكبرى، أو قيام تكتّلات قد تهدد هيمنتها
  • نشر القيم التي ترتكز عليها ديمقراطيّتها و لو بالقوّة.

باختصار،  تريد اميركا تأمين السلام العالمي عبر كونها إمبراطوريّة مهيمنة Peace through hegemony.

          فهي تعمل من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير على تعزيز وجود قوّاتها و قواعدها العسكريّة في منطقة تقترب بها من حدود روسيا والصين. و هي بهذا التواجد تسيطرعلى الممرات وطرق المواصلات البحرية هذا عدا السيطرة على الجو والفضاء.و هذا الانتشار العسكري ضمن الشرق الاوسط الكبير سوف يؤمّن لها شروط الهيمنة على المدى البعيد عبر السيطرة على نفط الخليج، وعلى نفط بحر قزوين. وفي الوقت نفسه، احتواء كل من روسيا والصين. و سيتيح لها التحكّم في انتاج النفط، وتسعيره في وقت لاحق.

          و لأن الجهد الرئيسي للولايات المتحدة يتركّز في هذا الوقت في الشرق الأوسط ، ترى هذه المرتكزات تطبيقها الواضح في طريقة طرح و تنفيذ المشروع الأمريكي للمنطقة التي أصبحت الساحة الرئيسة التي تشن فوقها الولايات المتّحدة حربها ضد الإرهاب العالمي، فهي تعمل على إعادة ترتيب وضع الشرق الاوسط القديم - الجديد، لتكون هي المقرّر الاساسي في تفكيك و إعادة توزيع الأدوار و إحداث التوازنات بما يحول دون تشكيل تكتّلات تهدد مصالحها الحيويّة.

          و قد بدأت تكتّلات كهذه بالتشكّل في الإقليم بعد انتهاء الحرب الباردة، تقع في قلب أوّلها إسرائيل و تركيّا اللتان أصبح تعاونهما علنيّاً منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993. و تجتمع الدولتان على كونهما دولتين غير عربيّتين و ديمقراطيتين علمانيتين على النمط الغربي، و كلاهما تمتلكان ترسانة عسكريّة معتبرة و مخاوف من الإرهاب و تتصلان بأواصر متينة مع الولايات المتّحدة بينما تعانيان من مشاكل مع إيران و سوريا، الدولتان الأخريان اللتان يتصادف و أنهما مركز الكتلة القويّة الأخرى في الشرق الأوسط ..

          و قد ارتبطت سوريا و إيران بتحالف قويّ منذ الثورة الإيرانيّة لكونهما تشتركان في مجموعة من التهديدات المشتركة؛ فالولايات المتّحدة بالنسبة لكليهما قوّة إمبرياليّة تسعى للهيمنة على الشرق الأوسط و تجفيف موارده، و إفقار شعوبه و تفتيت ثقافته المتجانسة بحكم التاريخ و الدين. و كلاهما تنظران إلى إسرائيل، أو "الكيان الصهيوني" بوصفه جسماً غريباً عن المنطقة يهدد استقرارها و يشكّل خطراً عليها. كما تشتركان في انزعاجهما من التحدّي المتمثّل بوجود تركيّا، كعضو في حلف شمال الأطلسي، على حدودهما .

          و قد عمل الاستقطاب بين هاتين الكتلتين على جعل الصراع العربي الإسرائيلي المسألة المركزيّة في الشرق الأوسط، و نجح في تحييد الكثير من دول المنطقة عن الانضمام لإحدى التكتّلين، فهو  الذي يمنع دولاً  كالأردن  التي التي تعبّر بصوت عال عن خوفها من الخطر الشيعي  و التي ارتبطت بعلاقات طيّبة مع إسرائيل على اتخاذ خطوة باتجاه الكتلة الأخرى. و هو الذي يبقي السعوديّة و دول الخليج على حيادها  بالرغم من خوفها من إيران.

          و لهذا يصبح من المعقول الاستنتاج بأنه لنجاح التصوّر الأمريكي-الإسرائيلي للشرق الأوسط الجديد ، فإنه لا بدّ –ببساطة-  من تغيير بؤرة الصراع في هذه المنطقة بحيث لا يعود مصطلح "الشرق الأوسط" مرتبطا بالصراع العربي الإسرائيلي، ولكن بصراع آخر من نوع جديد عربي- إيراني، أو سني- شيعي.  فيه يتم تصنيف إسرائيل كحليف للدول العربية "المعتدلة" وفقاً للمقياس الأمريكي، ومن هنا يأتي السعي الأمريكي الذي يظهر في  الأحداث المتسارعة في العراق و لبنان و فلسطين، و مما يتم إطلاقه من تصريحات رسميّة و غير رسميّة على لسان مسؤلين أمريكيين و إسرائيليين، لضرب إيران و تشكيل جبهة عربيّة ضدّها عبر استفزاز النعرة الطائفية والعشائرية في المنطقة. و لا يرى الكثير من المحللين في الإعدام الاستفزازي لصدّام حسين و ما تبعه من فتن سوى إثبات صارخ على هذا التوجّه لتحقيق هذا الهدف المذكور.

          أمّا  الجانب الاقتصادي للمشروع، بما فيه مشروع السوق الشرق أوسطية، فإن كثيراً من المحللين الاقتصاديين  يرون فيه خطورة على الاقتصادات العربيّة، إذ يستهدف ربط الاقتصاد العربي بعجلة التطور الإسرائيلي، ليصبح هذا الأخير،، كونه يتمتع بوجود يد عاملة ماهرة، ومراكز أبحاث متطورة، مركزاً لاستقطاب استثمارات الشركات المتعددة الجنسية ذات التقنية العالية جداً. وبفضل هذه الاستثمارات الدولية في مجال التكنولوجيا سيتم احتواء المنطقة العربية عبر عملية الدمج بين التكنولوجيا الصهيونية المتطورة والمال العربي، و جعل إسرائيل مركزاً ماليّاً في المنطقة على حساب العرب.

          و قد يمكن للمراقب أن يرى ، مع ما بدا على الأنظمة العربيّة من تشتت و ضياع  أمام ما يجري في فلسطين و لبنان و العراق، أن الشرق الأوسط غدا أشبه بمسرح لدمى الماريونيت المربوطة بخيوط رخوة أو مشدودة، رفيعة أو سميكة بأصابع الولايات المتّحدة و حلفاءها،  أو ب "أعداء الولايات المتّحدة" الذين يحرّكون  الوضع في العراق و لبنان و فلسطين الآن بما يسبب أزمة حقيقيّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة، و الذين عليهم أن يواجهوا عناد الولايات المتّحدة و إصرارها على إعادة تدويرهم و دمجهم بالقوّة أو بغيرها في منظومة "إمبراطورية العولمة" بشقّيها السياسي و الاقتصادي.

1.1: الدمقرطة و مكافحة الإرهاب:

          قد يكون أول ما يتبادر إلى الذهن من أسئلة أمام هذا العنوان الذي جعلت منه الولايات المتّحدة ركيزة لسياستها الشرق أوسطيّة هو:  كيف يتّفق هذان الطرحان –الدمقرطة و مكافحة الإرهاب- بمفهومهما الأمريكي مع منطقة تعج بالصراعات كمنطقة الشرق الأوسط؟  فالديمقراطيّة التي تطالب بها الولايات المتّحدة الأنظمة الصديقة لها في المنطقة لم تنجح كما يبدو إلّا  في تفريخ أزمات لهذه الأنظمة و للإقليم بأسره، بل و ربّما تؤدّي إلى الإطاحة، بهذه الأنظمة. ثم إن التباس مفهوم "الإرهاب" و ميوعة تعريف "الإرهابي" في المفهوم الأمريكي- الإسرائيلي قد يؤدّي بعمليّة "الدمقرطة" إلى أن تنتج "الإرهابيين" بدلاً من أن تكافحهم، ذلك أن قد يراه البعض إرهاباً قد يراه البعض الآخر مقاومة مشروعة، و الشارع العربي و الإسلامي،  كما يبدو في فلسطين و لبنان، يفضّل وصول حركات المقاومة إلى السلطة. و ربما لهذا لم تنفكّ إسرائيل عن نعت مشروع الدمقرطة الأمريكي بالسذاجة...

          و بالنسبة لإيران خصوصاً، و سوريا و من لفّ لفّها عموماً،  فهي تعبّر بوضوح عن رفضها للتعريفات الأمريكيّة للإرهاب، و للمعادلة الأمريكيّة الخاصّة بالعلاقة بين الديمقراطيّة و الإرهاب، و تستبدلها بمعادلة ثقافة المقاومة ضد التدخل الأجنبي في شؤون المنطقة، كما تسعى لدعم حركات المقاومة باعتبارها العمود الفقري لتفعيل حركة شعوب المنطقة، وهي تنفي عنها فكر الإرهاب بمساعدتها على التحرك في الإطار العسكري الذي يبعد عنها هذه الصفة.

          و تصرّح إيران و سوريا باعتقادهما بأن المشروع الأوسطي الجديد هو غطاء لتحرّك أمريكيّ-إسرائيليّ يهدف إلى تصفية القوى المناوئة تحت شعار القضاء على الإرهاب كمقدّمة لتحقيق السلام، و ترى في أي سلام يتحقق عبر هذا المشروع كسلام يقوم على المذابح وتشرذم المواقف العربية وتهميش أي دور للدول العربية و الإسلاميّة حتى المركزية منها.

          و لا يبتعد كثير من المحللين و قرّاء المشهد السياسي الشرق أوسطي عن هذا الوصف، فقد أصبح واضحاً أن "الحرب على الإرهاب" هي استمرار للحرب الأولى على العراق، والحرب ضد يوغوسلافيا، والتدخل المتصاعد في الصومال واندونيسيا، وغرينادا وهايتي وإلخ، هي الصيغة السياسية الهادفة إلى ترتيب العالم بما يخدم المصالح الحيويّة الأمريكية و على رأسها احتكار النفط لحل الأزمة المتصاعدة في أمريكا وللضغط على الرأسماليات الأخرى وتحجيمها؛ واحتكار الأسواق من أجل الاستثمار وتصدير السلع.. حيث سيكون الاحتلال، وتكون السيطرة العسكرية والسياسية المباشرة وسيلة لاحتكار الأسواق والتحكم بالنفط.

1.2: المسألة النوويّة و مصلحة الحفاظ على الاستقرار:

          الوصول إلى الاستقرار هو غاية حراكات القوى في النظام الدولي الذي يتّسم بالفوضى، و لذا فليس من الغريب أن يكون مطلب الاستقرار ركيزة أساسيّة في السياسة الخارجيّة الأمريكيّة الواقعيّة، و هدفاً في استراتيجيّتها الأمنيّة منذ عقود طويلة، و إن كانت تميّز بين المفهوم الواقعي للاستقرار، و سياسة الحفاظ على الاستقرار، و هي سياسة أمريكيّة قديمة تتعلّق بتوازنات القوى، و تعود للخمسينات و الستّينات من القرن الماضي.

          و في سياسة جورج بوش و إدارته من المحافظين الجدد فإن "الاستقرار"  في الشرق الأوسط  و الذي ظلّ يرتبط بالمصالح الأمنيّة لإسرائيل، أصبح له وجه آخر مع وجودها المياشر في المنطقة بعد انهيار نظام القطبين.  و لتحقيق استقرار جديد، لا بد من عمليّة ميتامورفوزس للإقليم  تتمّ عبر القضاء على "الدول المارقة" ، و على رأسها النظام الإيراني الذي يسعى لامتلاك قدرات نوويّة قد تخلّ بالاستقرار السابق الذي يقوم على أساس التفوّق النوعي و النووي لإسرائيل،
أو حملها بالقوّة على فبول معادلة الاستقرار الأمريكيّة التي تتطلّب دمج حليفتها الأثيرة سياسيّاً و اقتصاديّاً في الإقليم و القبول باحتكارها النووي.

3-   الأجنده الإيرانيّة في الشرق الأوسط :كيف تصطدم أو تتفق مع الرؤيا الأمريكيّة؟

          تمتلك إيران على لسان مسؤوليها الإجابة على هذا السؤال، فقد عرضت  الجمهوريّة  على العرب مشروع الشرق الأوسط الإسلامي البديل  و الذي يتعارض -حتى في اسمه- مع جوهر المشروع الأمريكي،  واعتبرته أساسا لوقف الإرهاب في المنطقة. و لم تتعامل مع طرحها باستخفاف، إذ نشطت الدبلوماسية الإيرانية لإقناع دول المنطقة بجدوى المشروع كإطار لتشكيل تكتل عربي إسلامي في مواجهة الهجوم الغربي على الحضارة الإسلامية، موضحة أن هدفها من هذا التكتل ليس تكوين حلف عسكريّ في مواجهة التحالف الأمريكي الدولي تحسبا لتطور العمل العسكري، لكنه تكتّل سياسي و ثقافيّ و أمنيّ . ويشرح علي أكبر ولايتي منطلق إيران في هذا بقوله: إن جمهورية إيران الإسلامية تعتقد اعتقادا راسخا في مبدأ التعاون الإقليمي باعتباره دليلا على الجدية في تنمية العلاقات الثنائية والثلاثية والمتعددة الأطراف كسبيل وحيد لضمان السلام والاستقرار والأمن في هذه المناطق.

          و ربّما يكون في طريقة تعامل إيران مع التهديدات الخارجيّة ما قد يشجّع بعض العرب على طرحها، فقد نجحت حتى الآن في التعامل مع النظام الدولي بشكل مكّنها من تحمّل الحصار المفروض عليها دون انهيار استقرارها الداخلي و قامت بتطوير شبكة علاقات إقليميّة في العالم العربي و في شرق و وسط آسيا، و أوروبا  مستفيدة في ذات الوقت مما يجري في العراق التي تحوّلت إلى ساحة لنفوذها مع تفتت قوّة العرب و الأزمة الأمريكيّة في معالجة الموقف هناك. هذا إضافة إلى برهانها على قدرتها على كسب الشارع العربيّ عن طريق دعم حركات المقاومة و تحدّي الإرادة الأمريكيّة.

          هذه المسائل جعلت من إيران العائق الأكبر على طريق تحقيق المشروع الأمريكي، و جعلت من تحجيمها الهدف الأول على رأس سلّم أولويّات الإدارة  الأمريكيّة، و  التي لم تأل جهداً في تخويف العرب من جارتهم الفارسيّة، و تشكيكهم –مع ما لديهم من الشك، و الآن الخوف من شعوبهم- في نوايا إيران.

          و لا شكّ في أن مشروعات الوحدة والتعاون الإيرانية تحمل في ثناياها مشروعاً لرسم خريطة جديدة للمنطقة تضم العالم العربي وإيران وتركيا ودول آسيا الوسطي الإسلامية والمنطقة الإسلامية في إفريقيا، و العرب يعرفون ذلك كما يعرفه الأمريكيون و الإسرائيليون.  لكن ما يحتاج العرب المشتتون إلى تطمينات بشأنه لا يتعلّق بحسن النوايا المطروحة على مستوى التنمية و التعاون الإقليمي ، و انما بحسنها بالنسبة للمستويات الأخرى المتعلّقة بالسياسة الأمنية و حماية الأمن القومي.

          و قد نجحت الولايات المتّحدة في إقناع معظم الأنظمة العربيّة بأن التصعيد الخطير للغاية للأوضاع في المنطقة ليس إلا أمنية إيرانية  نابعة من المطامع الإيرانيّة القديمة بالسيطرة على المنطقة، و لهذا يحاول الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إحراج هذه الأنظمة بتنصيب نفسه مدافعاً  عن الشأن الفلسطيني، في مسعى لإظهار الضعف الذي تعانيه الدول العربية، هذا فيما يعزّز نظامه المحور الشيعي الممتد من حزب الله وسوريا حتى الشيعة في العراق.

          و كانت المسرحيّة الساتيريّة السوداء  لإعدام صدّام حسين، بتوقيتها المهين، و ما تبعها من تداعيات طائفيّة  تأكيداً على هذا التوجّه الأمريكي لتشتيت المسافات بين السنّة و الشيعة، و تأجيج مشاعر العرب ضد إيران و التي ربّما لم يتوقّع جورج بوش ذاته أن تقع في فخ الشماتة و التشفّي الذي نصبته لإثارة مشاعر السنّة العرب.

          و تبقى الحقائق الظاهرة على الأرض هي أن إيران تمتلك مفاتيح قوّة، و أوراق مساومة لن تجعلها ترضى بدور هامشي في المنطقة؛ فالبرنامج النووي الإيراني، و النفوذ الشيعي في العراق، و السياسات النفطية التي يمكن أن تمارسها كدولة نفطيّة كبرى ، و علاقتها مع قوى المقاومة -خصوصاً بعد صعود حماس للسلطة-و و إحراج حزب الله –الذي تدعمه- لإسرائيل في لبنان، وما  مثّلته حرب لبنان من اختبار لتحالف إيران مع سوريا، جمعيها أوراق مهمة في يد الجمهورية الإسلامية الإيرانية تستطيع أن تؤثر بها على الساحة الإقليمية بل والدولية .

          و على هذا، يمكن وضع ملامح للأجندة الإيرانية في الإقليم كدولة  لن تقبل بأيّة ترتيبات أمريكيّة لا تمنحها مكانة دولة إقليميّة ذات وزن يعتد به في الشرق الأوسط. فرؤيتها الاستراتيجيّة تقوم على ضرورة بناء قوة شاملة متعددة الأبعاد و الأدوات يعتد بها في الإقليم . و هي قد وضعت وزناً كبيراً منذ البدايات على التكنولوجيا، ليس فقط لإعلاء القوة العسكرية، بل لتغيير موازين القوة بمفهومها الشامل وإعادة ترتيب وضعها على الخريطة الإقليميّة ومن بعدها الدولية.ويأتي البرنامج النووي الإيراني كأداة رئيسية في هذا المجال. و هي تعوّل على أن تعامل الولايات المتحدة معها سيتغيّر إذا ما وصلت إلى امتلاك القنبلة، و لها في كوريا الشماليّة و الهند خير مثال.

4-   إيران و العرب في ظلّ  الطرح الأمريكي و الهاجس النووي:

          تأثّرت العلاقات العربيّة الإيرانيّة تاريخيّاً بالتداخل في حلقات التاريخين العربي و الفارسي قبل و بعد الإسلام الأمر الذي أنشأ من ناحية تفاعلاً حضاريّاً و تأثيراً متبادلاً في الديانة و الثقافة و العادات و التقاليد، كما أدى في أحيان أخرى إلى المواجهة و الصراع لاسيما بحكم التشابك الديمغرافي ما بين إيران و محيطها العربي على محاور العرب و  الشيعة و الأكراد من جهة، و بحكم  وقوع إيران و جوارها العربي من جهة أوسع في منطقة حساسة لمصالح القوى العظمى، مما جعل العلاقات العربيّة – الإيرانيّة تتأثر سواء بشكل مباشر أو غير مباشر بتفاعلات العلاقات ما بين القوى العظمى و كلّ من العرب و إيران.

          و عموماً فقد اتسمت نظرة معظم  الأنظمة العربيّة إلى نظام الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة منذ قيام الثورة  بالشعور بالتهديد المتمثّل بالشك و الحذر في حدّه الأدنى، و بالخوف و الشعور بالتهديد، بل و المواجهة في مستويات أخرى،( بالرغم من كون هذا التهديد قد لا يختلف كثيراً عن تهديد تمثّلة بعض هذه الأنظمة لبعضها البعض دون أن يصل إلى مستوى المواجهة المفتوحة) ذلك أن الفكرة المركزية في "التهديد الإيراني" قامت على الخوف من أن إيران الفارسيّة الشيعيّة ، و التي تحرم الأقليّة العربيّة فيها –بموجب الدستور*- من الوصول إلى مراكز القرار، تسعى لوراثة النظام العربي السنّي، و تصدير ثورتها الشيعيّة إلى دول المنطقة، و قد تقوم بابتزاز العرب إذا ما امتلكت قدرات نوويّة.

          و قد اتسمت العلاقة بين إيران و دول الخليج عموماً بالتوتّر و المواجهة التي أثمرت مطالبات إقليميّة لإيران ببعض الدول الخليجيّة أو بأجزاء منها بدعوى الحقوق التاريخيّة،و بلغت هذه التوتّرات ذروتها أثناء الحرب العراقيّة الإيرانيّة التي وقفت فيها دول الخليج إلى جانب العراق. و لم تفلح تداعيات ما بعد حرب الخليج الثانية، ومحاولات النظام الإيراني للانفتاح على محيطه العربي في تبديد التوتّر ما بين

__________________________________________________________________
* تشترط المادة 115 من الدستور الإيراني في رئيس الدولة أن يكون "مؤمنا و معتقداً بمبادىء جمهوريّة إيران الإسلاميّة و المذهب الرسمي للبلاد" و قد قرنت المادة بين تشيع رئيس الدولة و إنحداره من أصل إيراني و حمله الجنسيّة الإيرانيّة.  و قد  ظلّت هذه  النقطة تعكس قلق و عجز إيران عن التوفيق بين الهويّة الشيعيّة كخصوصيّة و طموحها في تقديم نموذج إسلامي للتصدير للمحيط السنّي الأوسع (مسعد،23)


الإيرانيين و جيرانهم الخليجيين خصوصاً مع حقيقة أنه لم يتم الوصول إلى تسوية حول قضيّة الجزر الإماراتيّة الثلاث، ولا تزال إيران تملك رؤيا مختلفة عن هذه الدول لقضيّة مياه الخليج و التواجد الأمريكي هناك، إضافة الى ما يمكن أن يسببه امتلاك إيران للقدرة النوويّة من زعزعة لتوازنات الإقليم.

          أما مصر، فقد تدهورت العلاقات بينها و بين الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة  بعد توقيع السادات لمعاهدة السلام مع إسرائيل،  و انتهت بعد إطلاق الإيرانيين لاسم الرجل الذي اغتال السادات على أحد شوارع العاصمة طهران. بينما غلب على علاقة إيران بالأردن طابع اللاوديّة ، و قد عبّر الملك عبد الله الثاني عن ذلك بخشيته  مما أسماه ب"خطرالهلال الشيعي".

          و على الجانب الآخر، اتسمت  علاقات إيران مع سوريا بعد الثورة الإيرانيّة بالتقارب و حتى التحالف، و لم تقف سوريا مع العراق أثناء الحرب العراقيّة الإيرانيّة، و بالمقابل، دعمت إيران تدخّل سوريا في لبنان، و وقفت مع لبنان في معظم حروبه، و لا تزال تشكل السند الأكبر لحزب الله الشيعي اللبناني في مختلف مواجهاته مع إسرائيل.

          و لكنّ إيران، في الطرف الآخر، و التي  بدت تُظهر اتجاهات أخرى في علاقاتها مع العرب منذ وصول علي خامنئي إلى السلطة، بدأت تدرك و تستخدم المتغيّرات المستجدّة في المنطقة بذكاء، إذ تتحرّك في ساحة إقليمية بدأت تقدم لها فرصا أوسع للمناورة، حيث شهدت التحالفات العربية تغيرات واضحة كان أبرزها ما أصاب التحالف الرئيسي الذي عد في التسعينيات الركيزة الأساسية للتوازن الإقليمي العربي وهو التحالف المصري السوري السعودي، و الذي تفكك بخروج سوريا التي سعت إيران للتحالف معها فوراً. و قد تعزّز هذا التحالف مع تحلل التحالف السوري-اللبناني. وبالمثل شهدت التحالفات الداخلية تحولات ذات دلالة مثل التحالفات اللبنانية-اللبنانية، والتحالفات العراقية-العراقية، و صعود حماس إلى سدّة السلطة الفلسطينيّة. وهكذا بدت سيولة شديدة في العلاقات الإقليمية-الإقليمية والداخلية-الداخلية على السواء سعت إيران إلى استثمارها فوراً.
.
          و قد يحسب لصالح إيران كونها ظلّت معنيّة باستقرار الحدود السياسيّة لدول المنطقة، حتى عبر كل تاريخ صراعها مع العراق، إذ لم تؤيد انفصال شمال العراق الكردي، و لم تتحمس لفكرة انفصال جنوبه رغم أغلبيته الشيعيّة، ذلك أنها تدرك الخطر على مصالحها و المثمثل في حصول سابقة قد تتكرّر، أو إقامة دولة شيعيّة محسوبة عليها قد تزيد من مشكلاتها الاقتصاديّة. كما أنها أضحت تعطي بعداً أكبر لردود الفعل الدوليّة على أيّة خطوة كهذه..

          و جاءت مواجهة حزب الله مع إسرائيل لتضع الأنظمة العربيّة في مواجهة مخاوفها مباشرة، فإيران مدّت يدها لحكومة حماس التي يحاصرها الغرب  و يحاول إفشالها في ظلّ عجز عربي عن اتخاذ موقف موحّد يفك الحصار عن الشعب الفلسطينيّ، و وقفت خلف حزب الله في مواجهته الجريئة لإسرائيل لتكسب تعاطفاً واسعاً في الشارع العربيّ أخاف الأنظمة، إذ لم يتّسم  الموقف العربي الرسمي تجاه الحرب على لبنان بالقدر المطلوب من الإيجابية، وذلك على نفس خلفية الخوف من التشيع والخشية من الدور الإيراني.

          و مع التشرذم، و غياب القرار، و أزمة القيادة التي تكتنف الدول العربيّة في المنطقة إزاء ما يحدث من تطوّرات، و ما يتفرّخ من أزمات،  تزداد العلاقات العربيّة الإيرانيّة –باستثناء التوافق الإيراني السوري- التباساً و تحيطها الشكوك و القضايا الخلافيّة. كما يثير الدور الإيراني في العراق و لبنان و فلسطين الالتباسات و الخشية من أجندة إيران ، خصوصاً وأنها دولة كبيرة في المنطقة ولها مصالحها القومية وطموحاتها وعلى رأسها امتلاك التكنولوجيا النووية والسلاح النووي ، والبحث عن دور إقليمي راسخ في شؤون المنطقة. و قد لا يطول الوقت قبل أن تفتح في المنطقة أبواب جهنم بينما لا زالت الدول العربيّة حائرة في أمرها و تدور في حلقة مفرغة من اللبس و الإبهام. و قد يحدث ذلك  إذا ما سعت إدارة بوش التي ينفذ منها الوقت، و تضغط عليها المصالح الإسرائيليّة و تعاني من  أزمة حقيقيّة في العراق لفرض رؤيتها الشرق أوسطيّة بالقوّة، و ذلك وسط مناخ متفجّر من الأصوليّات  الدينية والسياسية المتطرفة المرتكزة إلى شتّى التفسيرات الدينيّة في النظرة إلى الآخر المختلف طائفيّاً و مذهبيّاً، ممّا قد يزجّ المنطقة في أتون يغيّر خريطتها إلى الأبد في غير صالح العرب.

          و قد يمكن أن تبدأ العلاقات العربيّة الإيرانيّة بالخروج من هذه الدوّامة إذا ما قام الطرفان بالتركيز على ما يجمع بينهما، و السير باتجاه تحجيم نقاط الخلاف إذا ما أرادا للمنطقة ألّا تتحوّل إلى حظيرة –أو حتى مسلخ!- أمريكي – إسرائيلي قد يأتي على ثيران الحظيرة واحداً بعد الآخر ، و لن يتمّ ذلك دون أن تعدّل إيران من سياساتها العربيّة، و تتعامل الأنظمة العربيّة بعقلانيّة مع مخاوفها و تحدد أمام ذواتها تراتبيّة ما لأعداءها  بما يخطو بها نحو تحقيق مصالحها و على رأسها مطلب الاستقرار في المنطقة.

 و يمكن إجمال القضايا الرئيسة التي يمكن لها أن تجمع أو تفرّق بين العرب و إيران في خمسة محاور:

1.3: المحور السوري- الإيراني و مستقبل المقاومة:

          من الواضح أن إيران أصبحت الآن مركزاً لحلف قوي لمعارضي المخططات الأمريكية الشرق أوسطيّة الجديدة، و هو الحلف  السوري-الإيراني؛ فسوريا، التى كانت لسنوات طويلة احدى العناصر الداعمة للنظام العربي تواجه الآن ضغوطاً هائلة من كل الجوانب، سواء على المسار الإسرائيلي بتنازلات سورية و استعداداها لتفاوض دون شروط مسبقة ثم الرد الإسرائيلي المتعجرف بان على سوريا الانتظار حتى تنتهي إسرائيل من ترتيبات السلام مع الفلسطينيين ، أو من حيث التهديدات المستمرة من الولايات المتحدة و قانون محاسبة سوريا  الذى يمهد لعقوبات عليها فى حالة عدم تعاونها مع الولايات المتحدة فى ضبط امن الحدود العراقية، هذا  إضافة إلى الضغط الفرنسى – الأمريكى المشترك لتنفيذ قرار 1559 الخاص بانسحاب سوريا من لبنان و الخضوع السورى بعد تزايد الضغوط اثر اغتيال رئيس الوزراء اللبنانى رفيق الحريرى .

          هذه الوقائع لم تترك لسوريّا من خيار سوى البحث عن حلفاء جدد، و قد وجدت ضالّتها في توثيق تحالف استراتيجي بينها و بين ايران لأن كليهما تواجه قضايا مشتركة و على درجة من الخطورة مما يحتم عليهما التعامل معها، لا سيّما و أنّ سوريا تمر الآن بمرحلة التى مرت بها إيران فى التعامل مع الولايات المتحدة خصوصاً و الغرب عموماً. ويرى المراقبون أن التقارب السورى الإيراني دفع البلدين الى تعاون سياسي في أكثر الملفات السياسية بالمنطقة ، فكان للبلدين مواقف مشتركة إزاء العراق وتركيا ولبنان والقضية الفلسطينية، كما طور البلدان علاقاتهما في جوانب أخرى لاسيما في المجالات التجارية.

           و قد كانت المواجهة ما بين حزب الله و إسرائيل اختباراً نجح فيه هذا التحالف في وضع عقبة أمام تحقيق التصوّرات الأمريكيّة لشرق أوسط تهيمن فيه إسرائيل. و قد عبّرت تصريحات الأسد و أحمدي نجاد بعد إعلان وقف إطلاق النار عن هذه االرؤيا السوريّة-الإيرانيّة المشتركة، إذ أكّدا على أنّ "حزب الله أفشل خطط أمريكا للشرق الأوسط ". ثمّ إن النفوذ الذى تتمتع به ايران فى لبنان وخاصة مع حزب الله قد ساعد سوريّا على الحفاظ على مصالحها و دعمها و خاصة بعد انسحابها من لبنان و هي  التى تعد لبنان بالنسبة لها قضية أمن قومى على حدودها.

          و طالما نجحت إيران و سوريّا ، من خلال دعمهما للقوى الفلسطينية واللبنانية "المعادية "لإسرائيل، في لعب دور كابح للهيمنة الإسرائيليّة،  فقد يمكن لبقيّة الدول العربيّة في و إيران الاتفاق على صيغة مقابلة للمطلب الأمريكي في "محاربة الإرهاب"، كونها تتفق مبدئيّاً على التفريق بين حركات المقاومة وتمييزها عن التنظيمات الإرهابية، بدلاً الاستسلام لضعفها الواضح، وعجزها عن التأثير في الأحداث. فبدلاً من الهلع إزاء نموّ الدور الإيراني في فلسطين و إيران مع تعاظم قوة حزب الله وحماس، و اكتساب إيران لتعاطف الشعوب العربيّة، قد يجدر بالدول العربيّة الترحيب من حيث المبدأ بدعم إيران –أو غيرها-  لللبنانيين و الفلسطينيين في مواجهة عدوّ مشترك هوإسرائيل ، على أن ترفض أن تترتّب على هذا الدعم أيّة مساهمة في "تمزيق الساحات المعنية عن طريق تفصيل الدعم على مقاس حزبي ، يسعر من الصراع الداخلي عوض ان يكون موجها للصراع مع الخصم الكلي... الدور الإيراني في لبنان وفلسطين يخيف الأطراف العربية ويحتاج إلى ترشيد يُبقي على الدعم من ناحية ويُقلل من التوظيف السياسي من ناحية أخرى". (الحروب، 2007)

2.3: العراق والمسألة الشيعيّة:

          قد تكون إيران أخطأت خطأً فاحشاً في ردود فعل ساستها و حلفاءها على إعدام صدّام حسين، إذ جازفت بخسارة التأييد الشعبي العربي الذي اكتسبته في أعقاب الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله ، بما في ذلك تأييد موقفها أمام التحريض الأمريكي ضد امتلاكها للتكنولوجيا النوويّة. فهذا التأييد تعرض لضربة قوية بعد الإعدام والتأويلات الطائفية الانتقامية التي لازمته ناهيك عن نسبته إلى مؤيدي إيران في العراق و ما بثّه تلفزيون حزب الله "المنار" من مواقف الابتهاج الذي أغضب قسما كبيرا من الرأي العام العربي السنّي الذي فقد حماسه للحزب و للإيرانيين.

          تصرّفات كهذه، مهما تبدو هامشيّة،  تشكّل عائقاً أمام تعزيز العلاقات العربيّة الإيرانيّة، و ليس من المستبعد بمكان أن يكون الأمريكيون قد اختاروا التوقيت لتحقيق هذا الغرض بالذات. ذلك أن الأمريكيين يدركون بوضوح أن الإيرانيين يحرّكون قسماً لا يستهان به من الساحة العراقيّة. وكان هذا الإعدام و تعامل إيران معه مع ما تبع ذلك من تداعيات طائفيّة، قد نجح في تأجيج المخاوف العربيّة من إيران و مشروع الهيمنة و الإحلال الشيعي، لا سيّما و أن الخوف لا زال قائماً لدى دول الخليج بالذات من كون إيران لا تسعى سوى لتحقيق هيمنة إقليميّة، و أنّها تستخدم العراق ورقة في صراعها مع الولايات المتحدة بحيث تهدّد بتفجير الوضع في العراق أكثر وأكثر في حال تفاقمت الأزمة النووية مع الولايات المتحدة.

          إذا كانت إيران تريد أن تنجح في تحسين علاقاتها بالخليج عن طرق نفوذها في العراق، فعليها أن تقوم بتغيير سياستها العراقيّة، و إثبات أنّها تترفّع عن الطائفيّة، و تمتنع عن دعم طرفٍ عراقيّ ضدّ آخر،و التأكيد على رؤية لطالما تمسّكت بها أيام حربها مع العراق تقوم على رفض منطق تقسيم العراق إلى دويلات شيعيّة و سنيّة و كرديّة.

3.3: قضيّة فلسطين:

           يرتبط موقف الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة من قضيّة فلسطين بموقف المؤسسة الدينيّة الإيرانيّة من الحركة الصهيونيّة، سواء قبل الثورة الإسلاميّة أو بعدها، و بالمحتوى الديني-الحضاري من جهة، و القانوني- السياسي من جهة أخرى  لصراع إيران مع إسرائيل؛ حيث أفتت المؤسسة الدينيّة الإيرانيّة مبكّراً، منذ الفترة السابقة لحرب ال48 بتحريم بيع الأراضي لليهود، و اجتناب الباعة و مقاطعتهم  و حتّى إخراجهم من ملّة الإسلام. إضافة إلى دعم الجهاد في فلسطين بالمال و السلاح، و معارضة تقسيم فلسطين.

           و منذ إقامتها في عام 1979، لم تعترف الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بدولة إسرائيل، و قامت بقطع علاقاتها الديبلوماسيّة معها مذ ذاك، و لا تزال تنظر إليها بوصفها فلسطين المحتلّة، و هذا يشكّل موقفاً مبدئيّاً و ثابتاً يضع القضيّة الفلسطينيّة في مركز الصراع العربي الإسرائيلي، و هو أحد المحدّدات الأساسيّة لسياسة إيران الخارجيّة بعد الثورة.

          و منذ مؤتمر مدريد و اتفاقيّة أوسلو و ما تلاها من مسارات التسوية، بدأت الهوّة تتزايد بين العرب و إيران بخصوص القضيّة الفلسطينيّة، إذ وقفت إيران موقفاً معارضاً للتسوية. و مع أنها تملك خبرات جيدة في مجال التفاوض، إلّا أنّها لم تعرض هذه الخبرات على الفلسطينيين في مفاوضاتهم مع إسرائيل، واكتفت بهذا الموقف السياسي مبرّرة إيّاه بالظروف و الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها. و بعد أوسلو، تخلّت إيران عن منظّمة التحرير لصالح دعم الحركات الإسلاميّة، مركّزة على توجّهها بضرورة مسح إسرائيل من خارطة الإقليم.

          و لكن، و على الرغم من تباين المواقف، إلّا أن القضيّة الفلسطينيّة يمكن  أن تعود محلّ إجماع  و تقارب بين العرب و إيران، ذلك أن إيران تبنّت، حتى في ظل رئاسة أحمدي نجاد، المبدأ الذي أكد عليه الرئيس السابق محمد خاتمي و الذي  يقوم على أن إيران تؤيد أي اتفاق للسلام يتفق عليه الفلسطينيون ويرونه يصب في صالح قضيتهم ومطالبهم المشروعة، وتقول إنها تريد سلاما في فلسطين يتمتع فيه المسيحي والمسلم واليهودي العربي وغير العربي وكل من يعيش على أرض فلسطين بحياة مستقرة وهادئة، و هي الرؤيا التي يريدها العرب. و أكّدت إيران على ذلك على لسان المتحدث باسم وزارة خارجيتها عندما طالبت عمل استفتاء عام في جميع الأراضي المحتلة لتقرير مصيرها.

          أما العرب، فقد يمكن أن يقتربوا في وجهة نظرهم من إيران، خصوصاً في ظلّ غياب الاعتراف الإسرائيلي بحقوق الفلسطينييتن المشروعة، و انهيار مسارات التسوية. ثم إنه، و إن كان الدعم الإيراني لم يعد ينسحب على كافة فصائل المقاومة الفلسطينية، إلّا أن الموقف الإيراني من القضية ينسحب على الجميع.

          و على أيّة حال، يبقى على إيران أن تبرهن على أن  دعمها لأية دولة أو حزب أو جماعة غير إيرانية أو شيعية و الذي يخضع لمراجعات كثيرة لها علاقة بالمصالح الإيرانيّة يجب أن لا يتحوّل إلى أداة نفوذ، مع ضرورة  إقرار العرب بمصالح إيران المشروعة.

4.3: خلافات الحدود و الديمغرافيا:

          هناك عدد من القضايا العالقة بين إيران و جيرانها العرب، خصوصاً الخليجيين، منذ أيام الشاه.  و قد يقرّب أو يفرّق  ما بين العرب و الإيرانيين ما يحدث بخصوصها سلباً أو إيجاياً، خصوصاً  في هذه المرحلة من الصراع ضد برامج قوى الهيمنة العالمية. و أبرز هذه القضايا هي قضيّة الجزر الإماراتيّة الثلاث (أبو موسى، و طنب الكبرى، و طنب الصغرى)  التي احتلها شاه إيران بدفع من الولايات المتحدة الأمريكية، و قضيّة عرب الأحواز، الذين تم إلحاقهم بخارطة إيران في عهد رضا شاه بهلوي عام 1925، و مورس بحقّهم حكم عسكري  حرمهم من حقوق التمثيل و المشاركة و تقرير المصير.

           و ليس هناك خلاف على أن عرب الأحوازعانوا الاضطهاد من معظم إن لم نقل كل الحكومات الإيرانية المتعاقبة. ذلك أن هذا الإقليم، الذي اكتُشِف فيه النفط عام 1908،  يمتلك موقعاً متميّزاً على رأس الخليج العربي، و يسيطر على كلّ موانئه، كما يقع ضمن الجسر الأرضيّ الذي يوصل آسيا وأفريقيا وأوروبا، مما جعل الحكومات الإيرانيّة تتعامل معه كمنطقة استراتيجيّة لا تنازل عنها، و لو بقمع ثمانية ملايين من السكان العرب الذين يشكّلون الآن 95% من الإقليم.

          و لئن أمكن للعرب الإقرار بأن إقليم الأحواز إقليم إيرانيّ، و أن مسألة العرب فيه تندرج تحت بند الأقليّات في الجمهوريّة الإيرانيّة ،  فإن على إيران أن تعامل الأقلية العربية السنية في الأهواز بإنصاف ومن دون قمع. و قد يمكن أن يتحقق للعرب و الإيرانيين الاتفاق على أنّه من الخطر الخطر الكبير أن يسعى كل طرف منهما لتحقيق مصالحه في منطقة حساسة وملتهبة من دون مراعاة مصالح الأطراف الأخرى. و يبدأ هذا بالاعتراف بواقع  تشابك و تناقض هذه المصالح على أرض الواقع . وعلى هذا يصبح من الضرورة بمكان أن تكون هناك توافقات إيرانية عربية ، وخاصة خليجية ، تنظم تناقض المصالح وتخفف من آثاره.، و قد تكون إعادة الجزر الثلاثة  للإمارات هو العنصر الأول من السياسة الإيرانية المطلوبة إزاء العرب لتحقيق هذه التوافقات.

5.3: المسألة النوويّة:

          من الحقائق الواضحة في المسألة النوويّة الإيرانيّة هو أنه لم يثبت حتّى الآن وجود أيّة محاولات إيرانيّة لإنتاج أسلحة نوويّة، مع إصرار الإيرانيين على حقّهم بالتزوّد بالمعرفة و التكنولوجيا اللازمة لللاستخدام السلمي للذرّة طبقا لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية  التي وقّعت عليها إيران سنة 1970. و كلّ ما لدى مفتّشي الطاقة الذرّيّة و الولايات المتّحدة ضدّ إيران هو أنها تقوم بتجارب في هذا المجال قد تمكّنها من أن تحصل على السلاح النووي ما بين 2007 و 2010!

          و تخشى الولايات المتّحدة و إسرائيل من أن يؤدّي امتلاك إيران للسلاح النووي إلى انهاء احتكار إسرائيل له في الإقليم، مما ينهي تفوّقها النوعي ، و يضع ضغطاً على دول أخرى في الإقليم لتحذو حذوها، ذلك أن دولاً عربيّة كثيرة تعتبره من غير الإنصاف أن تتفرّد أسرائيل بملكيّة السلاح. و لو وجدت دول عربيّة كالسعوديّة و مصر، و ربّما سوريا، نفسها بين مطرقة السلاح النووي الإسرائيلي و سندان السلاح النووي الإيراني، فإن هذا سيزيد من الضغط عليها للحصول على هذا السلاح، الأمر الذي يمكن له أن يشعل سباقاً من التسلّح النووي في الشرق الأوسط بشكل يزعزع استقرار الإقليم مع ما فيه من التوتّر و الصراعات.

          و قد بدأ الفاعلون الإقليميّون في المنطقة ، منذ الشلل الذي أصاب الهيبة الأمريكيّة نتيجة لأزمتها في العراق، بمحاولة تدبّر أمرهم تمهيداً لما يمكن أن يحدث من سيناريوهات قد تنتهي بها أزمة القدرة النوويّة الإيرانيّة، خصوصاً مع قرار الإدارة الأمريكيّة بزيادة قوّاتها في العراق و ما يمكن أن يجرّه ذلك من احتمالات. و قد نشطت الولايات المتحدة و أجهزتها الإعلاميّة و دوائرها السياسيّة  باللعب على وتر المخاوف العربيّة من إيران، و خصوصاً لدى حلفاءها في دول الخليج التي لا تثق بطهران أصلاً  تمهيداً لاحتمالات قادمة، فإيران سبق و ان ضربت الكويت والسعودية عسكريا، ولا تزال تحتلّ جزراً تابعة للإمارات كانت آخرها في عام 1991، و سبق أن اقتادت بوارج قطرية في عرض مياه الخليج، هذا  الى جانب نشاطها الذي أصبح معروفاً في العراق.

          و لا شكّ في أن للمخاوف العربيّة من سعي إيران لامتلاك السلاح النووي تجد  أساسها في تجارب العرب مع السياسة الخارجيّة الإيرانيّة التي يعتبر تصدير الثورة الشيعيّة الإيرانيّة أحد غاياتها. هذا التصدير الذي يظهر في سياسة إيران في العراق، و نفوذها في لبنان، و الذي تخشى دول كالسعوديّة أن يتعاظم ليزعزع استقرارها إذا ما أصبحت إيران قوّة نوويّة .

          و مهما كانت السيناريوهات المحتملة، فإن من الواضح أن العرب لا يملكون مصلحة في أيّة مواجهة أمريكيّة-إيرانيّة ستدور حتماً فوق حقول المنطقة المشتعلة، و لا في مواجهة طهران و استعداءها، خصوصاً إذا تمكّنت من تصنيع القنبلة.  و أن  هناك ما يمكن الوصول إلى اتفاق بشأنه في هذا المجال وهو مطلب عربيّ و إيراني يتمثّل في ترتيبات مشتركة جدّيّة تضمن استقرار الإقليم.  و لا يمكن أن يتحقّق ذلك دون تغيير في سياسة إيران العربيّة، و دون أن تقدّم إيران ضمانات  للعرب  بأنها لن تستهدفهم بالقوة الإيرانية، و  بأنها لن تقوم بتصدير الثورة إليهم، أو تمدّ ذراع الهيمنة في الإقليم، بينما يقوم العرب بإشراكها بما يتّفق و مصالحها و ثقلها في أيّة ترتيبات ذات علاقة باستقرار المنطقة و أمنها،  بما في ذلك صوغ نظام أمن إقليمي خليجي - إيراني يضع إطارا عاما لهذا الاتفاق و يحجّم التناقضات إلى أدنى مستوىً ممكن ، ويحدد مواقف ومسؤوليات الأطراف إزاء المصالح المشتركة وغير المشتركة في الخليج.

5-   سيناريوهات محتملة في ضوء الوقائع في الشرق الأوسط و التغيّر في الإدارة الأمريكيّة:

          يدور جدل كبير حاليّا في واشنطن حول إيران، التي أصبحت في ضوء المتغيّرات السريعة التي لا زالت تتفاعل في الشرق الأوسط، شوكة في خاصرة المشروع الأمريكي للإقليم؛ هل سيتمّ تحديد حجمها و دورها في الترتيبات الأمريكيّة عن طريق الحوار، أم الصدام؟.ما هي احتمالات هذا و ذاك؟ و هل سينجح أحدهما أو كلاهما في تحقيق هذا التحجيم؟هل يحدث صدام مباشر تقحم فيه الولايات المتّحدة قوّاتها مباشرة، أم تقوم بإشعال حروب بالنيابة بينما تفاوض على قنوات أخرى؟ هل ستقوم إدارة المحافظين الجدد بالانجرار وراء مطلب إسرائيل و ضرب إيران قبل أن يفوت الوقت، أم تحاول أوّلاً ترتيب أوراق العراق؟ و ما هي الخشية الأكبر من تأجيل الحسم العسكري: أن يؤدّي فوات الوقت إلى استبدال الإدارة الأمريكيّة بإدارة تميل للتفاوض، أم فواته بإتاحة الفرصة لإيران للحصول على القنبلة النوويّة التي تجعلها قوّة إقليميّة كبرى في المنطقة؟

          و حتى الآن، لا يبدو أن هناك إجماعاً بين المراقبين على أن هناك خطّة لضرب  إيران قد اختمرت و تشكّلت ملامحها في خطّة تحدد عناصر تنفيذها و إسنادها، و إن كان البعض يغمز بأنه في الوقت الذي تضغط فيه  أمريكا على إسرائيل للتخفيف من حدّة تصريحاتها و هجومها العلني على إيران، تقفز السعوديّة لتعرب عن رفضها "لسياسة المحاور" في المنطقة، و تحذّر الأردن من "الهلال الشيعي"؛  هذا في ذات  الوقت الذي تجتاح فيه المظاهرات مختلف العواصم الأوروبيّة، و الشوارع الأمريكيّة ضد ضرب إيران، مما يؤشّر على حراك جدّي  باتجاه ما يتم التلميح إليه بحياء من قبل الأنظمة المشتتة الحبلى بالأزمات في المنطقة.

          الثابت في كلّ ما يجري، خصوصاً بعد مواجهة حزب الله و إسرائيل، هو أن أمريكا و حليفتها إسرائيل قد تعرّضتا لمزيد من ضياع الهيبة في المنطقة، عندما حاولتا وقف الابتزازمن جانب إيران وسوريا بتصدير الأزمة الأمريكيّة في بلاد ما بين النهرين إلى باقي دول المنطقة  من خلال شنّ هجوم معاكس في لبنان، و أن ضياع الهيبة هذا قد أصبح يهدد المشروع الأمريكي برمّته بما يستدعي تحركاً ضدّ إيران بأي شكل من الأشكال.

          و قد بدأ هذا التحرّك منذ لقاءات لندن التي جمعت دول الترويكا الأوروبية (بريطانيا، فرنسا، وألمانيا) مع  الولايات المتحدة وروسيا والصين لبحث تداعيات الملف النووي الإيراني، و التي ابتغت منها الولايات المتّحدة الخروج باتفاق على موقف مشترك يمكّنها من رفع الملفّ إلى مجلس الأمن، حيث يمكنها العمل من هناك على الضغط باتجاه تطبيق البند السابع من مواثيق المجلس، و الذي سيعطيها صلاحيّات خطيرة تتراوح ما بين المقاطعة الاقتصادية و الدبلوماسية حتى استخدام القوة.

          ومع  اقتراب نهاية فترة بوش ، مع تزايد حدّة الجدل في واشنطن بين من يرون أنه يمكن احتواء إيران نوويّة، و هؤلاء الذين لا يريدون لها حتى امتلاك التكنولوجيا النوويّة، ناهيك عن السلاح ذاته، يبدو أن عدّاً عكسيّاً قد بدأ بين التصعيد وصولاً إلى الانفجار الكبير أو تخفيف حدة المواجهة توصلاً إلى تسوية تضمن حقوق إيران في إنتاج الطاقة السلمية مقابل ضمان مخاوف قوى إقليمية ودولية تشكك في أهداف المشروع.

           و بين احتماليّ التصعيد العسكري و التسوية السلمية تقع مسافة زمنية تحمل الكثير من السلبيات و الإيجابيات، فبينما لا تزال طهران حتى الآن تؤكد على حقها في بناء محطات لإنتاج الكهرباء لضمان نمو اقتصادها المستقل في المستقبل، وتؤكد على أنّ مشروعها مراقب دولياً ولم يخرج أبداً عن سياقه العام المتفق بشأنه مع وكالة الطاقة الذرية،  تصّر واشنطن على الشك بالبرنامج الإيراني وتواصل حملات تحريض وتأليب للدول الكبرى على مخاطر مفترضة، الأمر الذي لا يترك للمراقب احتمالات لسيناريوهات كثيرة، إذ تقع كلّها ضمن طيف نهايته الأولى حلّ ديبلوماسي مدفوع الثمن، و نهايته الأخيرة مواجهة مفتوحة.

1.5: الحفاظ على الوضع الراهنStatus Quo لحين انتهاء الانتخابات الأمريكيّة في 2008:

          و يجد هذا الموقف تبريره في الأزمة الأمريكيّة في العراق،  و التي تأتي وقت تعاني فيه إدارة بوش من حالة ضعف لم تشهدها منذ توليها، كما أنها تشهد مزيدا من التقليص لنفوذ اليمينيين المتطرفين لصالح البرجماتيين. و لأن التقديرات الأمريكية السابقة في حروب العراق ولبنان وحتى أفغانستان أثبتت فشلها جميعا، فلا داعي للتورّط في مغامرة عسكريّة جديدة قد تجعل إدارة بوش تخرج من السلطة بكارثة تدخلها التاريخ عبر بوّابة هادس تُشرّع أبوابها في الشرق الأوسط.

          و يرى محللون أمريكيّون، يؤيدهم تقرير للمعهد الملكي البريطاني للدراسات الدولية نشر في 23 أغسطس 2006،  أن الشكل الحالي للحرب ضد "الإرهاب" هو الذي أدّى حتّى الآن إلى تعظيم النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، و جعل من إيران أبرز المستفيدين ممّا يجري في العراق، و زوّدها بإمكانيّة خلط أوراق اللعب في المنطقة. و يرى هؤلاء أن معالجة إيران عسكريّاً في الوقت الحاضر سيكون أشبه بالانتحار، و قد يُدخِل العالم في حرب عالمية مصغرة، هي  "أشبه بخيار شمشون أو سيناريو يوم القيامة الذي يقوم على تصور  يقوم فيه الإيرانيّون بغلق مضيق هرمز ووقف صادرات النفط وقصف تل أبيب بالصواريخ وإثارة واستنفار شيعة الخليج والعراق ولبنان، غير استهداف 140 ألف جندي أمريكي في العراق".(عرفة، 2006)

و لكن أصحاب هذا الرأي يرون أيضاً  أن التهافت على التفاوض مع إيران قد يشجّع دولاً "مارقة" أخرى في المنطقة على تحدّي الولايات المتّحدة، و لذا فقد يكون من الحكمة متابعة و تطوير سياسة عزل إيران عن محيطها العربي، و الإقليمي و الدولي باتخاذ خطوات جدّيّة في هذا السبيل من مثل:

  • الدفع باتجاه إحياء مسار التسوية على الجانب السوري بما يباعد الشقّة بين إيران و سوريا، و ممارسة ضغط على هذه الأخيرة عبر أصدقاء واشنطن الخليجيين لتحييدها.

  • تفكيك مصادر قوة إيران الخارجية خصوصا حزب الله في لبنان وشيعة العراق.

  • بالتزامن مع المسار الأوّل يتم الدفع –أو إدّعاء الدفع- باتجاه تقدّم ما على المسار الفلسطيني يكون ثمناً لدعم العرب و تعاونهم مع أيّة إجراءات لعزل إيران.

  • إثارة الفتن الطائفيّة و القوميّة، خصوصاً ما بين السنّة و الشيعة،  بما يخدم مصلحة تخويف العرب من جارتهم الفارسيّة و يحشد الشارع العربي خلف الأنظمة العربيّة في لامبالاتها تجاه ما يصيب إيران، و يحدّ من نفوذ أذرعة إيران الطويلة في المنطقة.

  • السعي في المحافل الدوليّة و خاصّة مجلس الأمن لإصدار قرارات تزيد من تضيّق الخناق حول إيران، خصوصاً من الناحية الاقتصاديّة. بحيث يتزامن هذا الخنق مع تحرّك في داخل الساحة الإيرانيّة يوظّف المشاكل الاقتصاديّة التي تعاني منها الجمهوريّة، و تململ بعض شرائح النظام من الطريقة التي تدير بها حكومة أحمدي نجاد زمام الأمور لدفع إيران إلى الرضوخ للمتطلّبات الأمريكيّة، أو يشلّ حركتها لحين يمكن للولايات المتّحدة التعامل مع المشكلة بشكل أنجع.

2.5: المواجهة و الصدام المباشر، أو غير المباشر:

          و يرى من يذهبون هذا المذهب أن تأجيل المواجهة يعني أن إيران باتت على بعد خطوات من تصنيع السلاح النووي وبلوغ مرحلة اللاعودة مثل كوريا الشمالية. و لا ينبغي إسقاط العامل الإسرائيلي من الحسابات الأمريكيّة التي تدفع بهذا الاتجاه، فالإسرائيليّون –ومن وراءهم من "لوبي"  يُحسَب حسابه في الولايات المتّحدة- يلعبون دوراً لا يُستهان به في رسم  السياسة الخارجيّة الأمريكيّة، و هم قلقون من أن لا يكون الرئيس الأمريكي القادم بصلابة بوش فيما يتعلّق بإيران، و يريدون أن يتحرك هذا قبل أن يستلم الرئيس القادم منصبه في يناير 2009  أي قبل أن تصل إيران إلى القنبلة.

          و تتطابق مواقف إدارة بوش مع إسرائيل في هذا الشأن، ولهما مصلحة مشتركة في تقويض المشروع الإيراني لضمان تفوق تل أبيب على مجموع دول  المنطقة وتبرير استمرار الوجود العسكري الأميركي في الخليج - المنطقة الحيوية لأمنها السياسي واقتصادها القومي-  إلى فترة طويلة.ثم إنّ هناك "مافيات" شركات النفط و مؤسسات التصنيع الحربي التي يمكنها ممارسة نفوذها لدى البيت الأبيض للدفع باتجاه ضرب إيران

          و يبدو أن هناك دفعاً قويّا في أروقة الإدارة الأمريكيّة باتجاة ضرب إيران، و لكن الأمريكيين لا زالوا قلقين من تداعيات هذه الضربة، و غير متّفقين على شكلها و حجمها.  فعلى الصعيد الداخلي، يعاني جورج بوش من ضعف في شعبيته، و من كونغرس ديقراطي  في ظهره. وتعاني أميركا من استنزاف لقوّتها العسكريّة في العراق، و تهديد متمثّل بوجود شمال كوريا نووية، و لسوف يحتاج دعم روسيا و الصين و الاتحاد الأوروبي لضرب إيران، و كلها  تخشى من أن يؤدّي ضرب إيران إلى تهديد مصالحها الحيويّة في المنطقة، و تنتقد سياسات اسرائيل تجاه الفلسطينيين.

          هذا يقودنا إلى نقطة أن العرب قد يطلبون ثمناً لتحلفهم مع أمريكا لضرب إيران قد لا تقبله إسرائيل، كون هذه الضربة قد تزعزع استقرار بعض الأنظمة العربيّة و التي تحتاج إلى جزرة ترضي بها شعوبها التي تعاطفت مؤخّراً مع إيران، و ليست هذه الجزرة سوى أمل بتحقيق تقدّم فيما يخصّ القضيّة الفلسطينيّة . و قد جاء هذا واضحاً في خطاب أحد مستشاري رايس فيليب زيليكو  Philip D. Zeliko في رسالة لمعهد واشنطن للسياسات الشرق أوسطيّة، حيث أشار في النقاط الأخيرة أنه، لبناء تحالف عربي ضد إيران، تحتاج الولايات المتحدة لتحقيق تقدم في حل النزاع العربي الإسرائيلي.
           ولكن، و على الجانب الآخر،  فإن كثيراً من  المحللين لا يرون أن دول الخليج والأردن ستجرؤ بأي حال على معارضة الإستراتيجية الأمريكية، وستجد الولايات المتّحدة في موافقة هذه الدول، و ربّما مصر أيضاً، الغطاء الذي تريده. إلا أن أسوأ ما في الأمر بالنسبة لقادة الخليج هو القوة المتنامية للمد الشيعي، والتي قد تكون أهم نتيجة غير محسوبة لتوجهات الأمريكيين، و هي التي تجعل قادة الخليج يقدّمون قدماً و يؤخّرون أخرى.
           و لكن الواضح من مجريات الأمور حتّى الآن هو أنّ الولايات المتحدة لن تضع وزناً كبيراً لردود الفعل العربيّة إذا ما نجحت في تأليب الشارع العربي ضد إيران بتصرفات تشبه ما قامت به من إثارة للفتن الطائفيّة في العراق و التي توّجت بالإعدام المهين لصدّام حسين الذي صفع به حلفاؤها الشيعة السنّة يوم عيدهم؛  الأمر الذي يتيح لبعض العربيّة أن تنام قريرة العين دون أن تخشى على استقرارها نتيجة لتعاطف شعوبها مع إيران. ذلك أن إيران التي تعاطفت معها هذه الشعوب لتحدّيها دولة  عظمى تملك مشروعا تراه هذه الشعوب  إعادة للمنطقة إلى عصر الاستعمار ستصبح تهديداً فارسيّاً يسعى لإقامة نظام شيعيّ في المنطقة. و بهذا ستحصل الولايات المتحدة، التي درجت على  التحيز المطلق لإسرائيل، على دعم العرب، دون أن تضطرلتقديم تنازلات في مجال إحقاق العدالة للشعب الفلسطيني ، و ستنجح في تكوين تحالفها العربيّ دون اعتبار للحد الأدنى لمصالح العرب السياسية.
          و يبدو هذا واضحاً في المسار الحالي لإدارة جورج بوش التي لا تكترث بردود فعل العرب إزاء ما يحدث من تدمير للنسيج السياسي والمجتمعي والثقافي للمجتمعات العربية في العراق وفلسطين ولبنان وبصورة غير مباشرة في السودان، و التي تمارس التلاعب و الضغط  السياسي والاقتصادي على الدول العربيّة، وتحاصر سيادتها بعدد من الاتفاقات والترتيبات التي تضع بعض البلاد العربية تحت الإشراف المباشر للأجهزة الأمريكية و تحرم البلاد العربية من المعاملة المتساوية في الإطارين الدولي والإقليمي، مثل نظم الرقابة على صادرات السلاح والصواريخ والمواد النووية، والتي تستهدف تمرير الاحتكار الإسرائيلي وحرمان الدول العربية من القدرة على الدفاع عن النفس.
          و إذا كانت إدارة بوش ستحسب حساباً لأحد فهو للروس و الصينيين و دول الاتحاد الأوروبّي، و لهذا تسعى الإدارة الأمريكيّة سعياً حثيثاً لتجييش أعضاء مجلس الأمن بهدف تنفيذ قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي طلبت من إيران في فبراير الماضي "إعادة النظر" في بناء مفاعل جديد يفترض أن ينجز بناؤه في 2009، وسينتج كمية كبيرة من البلوتونيوم يمكن أن تستخدم لصنع قنبلة ذرية، فضلا عن تعليق تخصيب اليورانيوم، و إذا أصرّت إيران على الاستمرار في مشروعها فإن هناك فرصة كبيرة لنجاح الولايات المتّحدة في استثمار البند السابع من ميثاق الأمم المتّحدة لصالح الخيار العسكري.
          و إذا كان بالامكانالتسليم بأن استهداف إيران كان جزءاً من الخطّة الأمريكيّة حتّى قبل بدء هذه الحمّى حول التسلّح النووي و تزايد النفوذ الإيراني في الإقليم، يبقى السؤال مطروحاً حول توقيت و شكل و حجم الضربة الأمريكيّة، و مدى مشاركة إسرائيل فيها.
          من الملاحظ، بهذا الصدد أن اللغة الرسميّة الأمريكيّة ازدادت تصاعداً و حدّة في لهجتها تجاه إيران، و كذا سياستها تجاهها، مما يشير إلى اقتراب ساعة الحسم. و يتجلّى ذلك في تصريح الرئيس جورج بوش مؤخّراً بأن زيادة عدد القوّات في العراق من صلاحيّاته، و في الأوامر الصادرة للقوّات الأمريكيّة في العراق باعتقال أو قتل العناصر الإيرانيّة الفعّالة في العراق، هذا إضافة إلى الضجّة التي أثارتها الوثائق التي نشرتها منظّمة مجاهدي خلق الإيرانيّة الشيعيّة المعارضة حول عناصر إيرانيّة تعمل في العراق، و تتلقّى رواتب من الحكومة الإيرانيّة.
          و لكن العوامل الأكثر أهميّة في هذا السياق هي التغييرات  التي تجري في القيادة العسكرية الأمريكية المهتمة بالعراق، فقلوحظ تعيين الأدميرال، ويليام فالون، على رأس القيادة المركزية المسؤولة عن الشرق الأوسط، وجاء التفسير العسكري لذلك بأن تعيين طيار بحري ليشرف على العمليات العسكرية في الخليج له دلالة واحدة تشير إلى الخطوات التحضيرية لضرب المنشآت النووية الإيرانية، إذا ما دعت الضرورة. لأنه إذا ما قام السلاح الجوي بغارات مكثفة فإن المهمة الاستراتيجية ستقع على البحرية، فإيران ستفكر بالرد بالهجوم على منصات وحاملات النفط وإغلاق مضيق هرمز ومحاولة ضرب البنية التحتية لنفط دول الخليج، وهنا يبرز دور البحرية الأمريكية.
           ثم إن زيارة وزيرة الخارجية الأمريكيةالأخيرة للمنطقة جاءت في سياق دفع العرب في إتجاه الطرح الأمريكي الإسرائيلي المشترك حول إيران، والعمل على تشكيل حلف ثلاثي (جبهة المعتدلين العرب ، والإدارة الأمريكية، وإسرائيل) بهدف تقليم الأظافر الإيرانية.

          و من الوارد، بل و المتوقّع أن تقوم الولايات المتّحدة بإشراك تل أبيب في ضرب طهران سواء بتقديم الدعم اللوجستيو الأرضي،  أو كقاعدة انطلاق ضد الأهداف الإيرانية، فضلا عن التعاون الاستخباري لتوجيه ضربات مدمّرة للمفاعل النووي الإيراني ومراكز إنتاج الوقود والطرد المركزي، و لكنّها ستعمل على أن تكون هذه الشراكة "على استحياء" لتمكين العرب من الحفاظ على ورقة التوت أمام شعوبهم.

          و لكن الولايات المتّحدة لن يكون في صالحها ولا في صالح إسرائيل أن تطيل أمد المواجهة، أو تبعث بقوّات لتبقى في إيران على تخوم روسيا و الصين، و لذا يجري الحديث عن أسلحة حديثة، و ضربة سريعة للمنشآت النوويّة، على غرار ضربة مفاعل تمّوز العراقي، تتمّ قبل الانتخابات الأمريكيّة القادمة عام 2008.

3.5: فتح باب التفاوض مع إيران:

          قد يحدث أن تخشى القوى الدوليّة الكبرى كالصين و روسيا –و حتّى الاتحاد الأوروبي- من أن تتوسع ساحة -و يمتد زمن- العمل العسكري ضدّ إيران بما يؤدّي  إلى هيمنة أمريكيّة على منابع النفط، و اقترابها من حدود روسيا و الصين كما كان عليه الحال أيام حلف بغداد، إضافة إلى خشية دول كروسيا و ألمانيا على استثماراتها في قطاعات النفط و الغاز و السلاح العسكري و التي تقدّر بالمليارات في إيران، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم تعاون هذه الدول مع الولايات المتّحدة لاستصدار قرار من مجلس الأمن يتيح لها العمل العسكري ضد إيران.

           ثم إن كثيراً من الدول الغربيّة ترى بأن استمرار الضغوط على إيران قد يدفعها إلى الانسحاب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية مثل كوريا الشماليّة، مما يجعلها حرة التصرّف في  القيام بأبحاث نووية، خصوصاً و أنها استطاعت حتّى الآن ان تحصل على دعم الدول الأوربية بهدف الحصول على مساعدات اقتصادية كبيرة مقابل ايقافها لأنشطة نووية بهدف تعزيز القدرات العسكرية. هذا  فضلا عن تدعيم الحل الدبوماسى السلمى للأزمة و الذي عبّرت عنه  بالرد الذي قدمته يوم 22 أغسطس 2006 حول المقترحات الأوربية بشأن تسوية الملف النووي الإيراني لممثلي الدول الـ5 دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، والذي تبلور في أن إيران تريد الدخول في مباحثات جادة حول ملفها النووي دون أية شروط مسبقة.

          و تتضافر هذه العوامل لتقيّد يدي إدارة بوش التي يقيدّها كونغرس ديمقراطي يميل للتفاوض مع إيران، و انتقادات تتصاعد في الولايات المتّحدة لسباسات إدارة بوش الخارجيّة و التي وجدت لها تعبيراً في انتقادات وجهها أكاديميان أمريكيان بارزان هما جون ميرشايمر John J. Mearsheimer من جامعة شيكاغو، و ستيفن والت  Stephen M. Walt من جامعة هارفارد، ونشرت في مارس في London Review of Books ، حيث ذهبا في انتقادهما إلى أن اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتّحدة و من ضمنه صناع السياسات اليهود قد أثّر على السياسة الخارجيّة الأمريكيّة، و أنه لولا هذا اللوبي لما ذهبت الولايات المتحدة إلى الحرب لصالح إسرائيل في العراق. كما أ أنه قد يجّر أميركا إلى مواجهة مع إيران. و أضاف ميرشايمر بأن دعم أميركا لحرب إسرائيل في لبنان إنما هو مثال آخر على تغلّب المصالح الإسرائيليّة على الأمريكيّة. و أكّد المقال على أن الضغط باتجاه حلّ المسألة الفلسطينيّة هو مفتاح الاستقرار في الإقليم.

          و فوق كلّ ذلك، لا يُتَوقّع أن تكون ضربة إيران-حتّى لو كانت ضربة جويّة سريعة و خاطفة كما يُقال- نزهة جوّيّة للطائرات الأمريكيّة و الإسرائيليّة،  فإيران تمتلك  إيران أحدث المنظومات الصاروخية، و منها منظومة الصواريخ متوسطة المدى من طراز "تور ـ 1 إم". التي كشف وزير الدفاع الروسي، سيرجي إيفانوف، أن بلاده قد سلّمتها لإيران مؤكداً استعداد بلاده لتقديم أية اسلحة دفاعية أخرى إلى إيران في حال طلبها لذلك. ويؤكد مسؤولون عسكريون روس أن نظام الصواريخ هذا سيحمي إيران من هجمات جوية. كما كشفت تقارير إعلامية إن إيران حاولت أن تقتني قطع غيار من أنظمة حربية أمريكية، عبر وسطاء يقومون بشراء هذه القطع من مخازن الفائض لدى البنتاجون الأمريكي.

           و لا ننسى أن إيران تُصنّف  كثاني منتج عالمي للنفط، و بإمكانها منع تصدير النفط أيضا من الخليج عبر غلق مضيق هرمز- حيث يمر 18 مليون برميل نفط يوميا إلى الغرب- و لن يأخذ منها لسدّ المضيق سوى  إغراق مدمّرة واحدة على بابه.
          و فقا لمؤيديّ هذا السيناريو، فقد تفجّر إيران المنطقة لجر أمريكا للتفاوض، و هو أمر بدأ يحدث بالفعل، فقد  كان الرئيس الإيراني أحمدي نجاد قد بعث برسالة  إلى رئيس الوزراء الإيطالي ،رومانو برودي، بتاريخ 18-11-2006 يعرب فيها عن "استعداد إيران للمشاركة في حل مشاكل الشرق الأوسط إذا اعتُرف لها بوضع قوة إقليمية".  و لكنّ إدارة بوش أهملت الرسالة، و ردّ بوش بطلب المساعدة من العرب في حل المعضلتين العراقية و اللبنانية، بدلاً من أن يفتح قناة اتصال مع سوريا و إيران. و أصبح على إيران إيجاد بدائل تستطيع من خلالها جر الأمريكيين للتفاوض معها، و لذلك قامت بتحريك الساحتين اللبنانيّة و العراقيّة، فدفعت  حزب الله إلى أن ينقل خطابه من الحديث من الحرب و الأسرى و الدمار إلى الحديث عن ضرورة إسقاط الحكومة التي تسعى لإخلاء لبنان من النفوذ السياسي الإيراني و السوري.  و في  العراق، أثبتت إيران أنه يمكنها تفجير الوضع بشكل يجعل الإدارة الأمريكية غير قادرة على ضبطه، و بالتالي عندما يريد الأمريكيون معالجة الأمر فإنّه لا بد و أن يرجعوا إلى إيران لا إلى العرب؛ لأنّ العرب لا نفوذ لهم على المقاومة العراقية، أو على الميليشيات الشيعية و جيش المهدي.
          و لكلّ هذا، بدأت أطراف أمريكيّة تقتنع بأن الطريق الوحيد للخروج من المأزق العراقي يمر عبر طهران، كما أن العديد من شركات البترول العالمية، وبدافع مصالحها، تضغط باتجاه ترتيب صفقة بين واشنطن وطهران، اساسها السماح بدخول الغاز الايراني الى السوق الاميركية.
          و لئن كانت الولايات المتّحدة ستختار التفاوض، فلن يكون ذلك دون أن تكون استنفذت الخيارات الأخرى، و ضغطت على إيران إلى الحد الذي يجعلها تقبل بأقلّ ما هو ممكن، و منه أن يكون ما تحصل عليه واقعاً ضمن الترتيبات الأمريكيّة للمنطقة.
X-             خاتمة:
          فيما يثير الثور الفارسيّ أرض الحظيرة أمام جلّاديه في محاولة منه ربّما لإقناعهم بأنه يستحق أفضل مما يريدون به،  تهيم بقيّة القطيع العربي على وجهها في أرجاء الحظيرة على غير هدى في انتظار رحمة من السماء، أو شفقة من الأرض. حتى أنه  ليبدو لمن لديه الفضول الكافي لمراقبة هذه اللعبة أنه لا الثور الإيراني، و لا صاحب الحظيرة الأمريكي و عامله الإسرائيلي يضعون وزناً  كبيراً لوجود هذا القطيع الخائف، ولا لردود فعله عندما يساق، دابّة إثر دابّة،  إلى مصيره، كونهم يعلمون أنه سيرضى في النهاية بأي مصير تأتي به السماء.
          و على أيّة حال، فقد سبق و أن قيل بأن الدول العظمى لا تبدل استراتيجياتها كما تبدل ثيابها. و لذا فلا يُتَوقّع أن تتراجع الولايات المتّحدة عن مشروعها ذي الأهميّة الكبرى لمصالحها الحيويّة و استراتيجيّتها للهيمنة بهذه السهولة، أو تسمح لأي طرف بابتزازها و هي تعلم أن بإمكانها فرض شروط للصفقة.
          و على هذا يمكن أن نتوقّع أن الخطاب الانتخابي الرئاسي الاميركي لن ينفكّ  يدور حول هذه المصلحة، مختلفاً في حدود الكيفيّات لا المشروع ذاته. و قد يأتي ذلك اليوم الذي توافق فيه الولايات المتّحدة  على مطالب إيران، و تعطيها جزءاً من الوكالة في المنطقة، بينما تتفرّد إسرائيل بوكالة الهيمنة على حظيرة العرب. فهل يا ترى يقف العرب أمام ذواتهم الحقيقيّة و يجيبوا بصدق عمّا إذا كانوا يعرفون حقّاً من يكون أفضل لهم من بين الاثنين، لعل في ذلك ما يساعدهم على تحديد مصالحهم الحقيقيّة.





XI-          المراجع:

 أولاً: المراجع العربيّة:

1-  باكير، علي حسين. "الصفقة الكبرى: إيران تفجّر المنطقة طائفيّاً بين لبنان و العراق". الإسلام اليوم. 24/12/2006.
2-  براري، حسن. "أمن إسرائيل: صراعات الأيديولوجيا و السياسة". مركز الدراسات الاستراتيجيّة. (143) سبتمبر 2004.
3-  تركماني، عبد الله. "الشرق الأوسط: إلى أين؟" ورقة قدمت في إطار مائدة مستديرة عقدتها الجامعة العربية الحرة للعلوم – تونس. 9 مارس 2005.
4-  تشومسكي، نعوم. إعاقة الديمقراطيّة: الولايات المتّحدة و الديمقراطيّة. ط2:بيروت، مركزدراسات الوحدة العربية1998.
5-  الحروب، خالد. "مطلوب من إيران سياسة جديدة إزاء الجوار العربي". الدستور. (15346) 26 كانون الثاني، 2007.
6-   حنا، إلياس. "هكذا تريد الولايات المتّحدة الشرق الأوسط الكبير". النهار. 6 مارس 2004.
7-   خالد، تيسير. "الشرق الأوسط الجديد". الحوار المتمدّن (1627) 30 يوليو 2006.
8-   الرشيدي، حسن. "الاستراتيجيّة الأمريكيّة الجديدة في العالم". البيان. (211) إبريل 2005.
9-   سعيد، محمد السيّد." إيران "الغامضة" و العرب "الغرباء"". إسلام أونلاين. 24/9/2006.
10-       السويدي، جمال سند. إيران و الخليج: البحث عن الاستقرار.ط2: أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات و البحوث الاستراتيجيّة، 1998.
11-                شربل، غسّان. "العرب و الاختبار النووي". الحياة. 16/4/2006.
12-                شوقي، اسماعيل محمد." العلاقات الأمريكيّة الإيرانيّة: إلى أين؟" الدفاع. (240) يونيو 2006.
13-       عبد العال، علي. "الأمريكيّون و سياسة إشعال الحرائق في العالم. إيران: جبهة جديدة للصراع". قضايا و آراء. 19 يناير 2007.
14-                عبد المؤمن، محمد السعيد. "العرب و إيران: أما آن وقت الحوار؟" إسلام أونلاين. 2/8/2005.
15-                عرفة، محمد جمال." إيران و أمريكا: سيناريو يوم القيامة". إسلام أونلاين. 27/8/2006.
16-                فقيه، شادي. "إمبراطورية القرن الجديد و الهيمنات المتعدّدة". شؤون الأوسط. (122)، 2006.
17-                محيو، سعيد. "3 أشهر ستهزّ الشرق الأوسط". Swiss Info. 31 يوليو 2006.
18-       المديني، توفيق. "الشرق الأوسط الكبير و الهيمنة الاقتصاديّة الأمريكيّة الصهيونيّة". أقلام. (11) 2004.
19-       مسعد، نيفين عبد المنعم. صنع القرار في إيران و العلاقات العربيّة الإيرانيّة. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2001.
20-                موسوي، سيّد حسين. "سياسات أميركا و إسرائيل إزاء إيران". شؤون الأوسط. (109)، 2003.
21-                النابلسي، محمد." العلاقات العربيّة الإيرانيّة بعد الحرب الأفغانيّة". شؤون الأوسط. (109)،2003.
22-                نويهض، وليد. "الترويكا و الملفّ الإيراني". الوسط. السنة التاسعة (2321)، 18/1/2007.


ثانياً: المراجع الأجنبيّة:


1)    "Iran and Syria Applaud 'Victory'". BBC News. 15 August 2006.
2)    Earlanger, Steven. "Anatomy of an Alliance: In New Middle East: Tests for an Old Friendship". New York Times. November 13, 20056.
3)    Gresh, Alain and Vidal, Dominique. The New A-Z of the Middle East. New York, Tauris & Co Ltd. 2004.
4)    Haas, Richard N. "The New Middle East". Foreign Affaires. November, 2006.
5)    Hudson, Michael C. "Middle East Dilemma: The Politics and Economics of Arab Integration". New York, Tauris & Co Ltd. 1999.
6)    Pipes, Daniel. "The Real New Middle East". Commentary. November, 1998.
7)    Sciutto, Jim. Iran: "New Middle East Power". ABC News. November 11, 2006.


ثالثاً: مواقع إلكترونية:

No comments:

Post a Comment