مـيــنــا
|
مـــــيـــــنــــــــــــــا
تأليف: س. ر. شـــــلــبـي
1999
شخصيات المسرحيّة:
مينا
|
فتاة فلسطينيّة من شعب
"البلست".
|
أصدقاء مينا:
|
|
أثبعل
|
شاب فينيقي.
|
عثليا
|
شقيقة أثبعل.
|
يابين
|
جندي كنعاني.
|
إيسابل
|
شقيقة يابين.
|
الرومان:
|
|
جايوس جابينيوس
|
ضابط روماني برتبة
"تربيون".
|
ماركوس فيتيوس
|
ضابط روماني من أصل
غاليّ برتبة سنتوريون (قائد المائة). مساعد جايوس و صديقه الحميم.
|
سستيوس جالوس
|
حاكم ولاية سوريا
الروماني.
|
اليهود:
|
|
مناحيم بن يهودا
|
أمير من أمراء اليهود.
قائد لمجموعات يهوديّة مسلّحة.
|
إلعازر بن أنانياس
|
أمير يهودي، و ابن لأحد
كبار الكهنة.
|
أجريبا
|
ملك اليهوديّة بالنيابة
عن الحاكم الروماني (البروكوراتور) ييسيوس فلوروس.
|
دافيد
|
يهودي من أصدقاء مينا.
|
سخصيات ثانويّة
|
|
المسيحي
|
رجل مجهول، يدعو إلى
المسيحيّة.
|
أجناس
|
كنعانيّون، فينيقيون،
آراميون، يهود، يونان، و ضبّاط و جنود رومان.
|
ملحوظة:
تراعى النسبة الضئيلة للكنعانيين الذين كان يطلق عليهم هذا الاسم في الفترة التي نحن بصددها.
*****************************************************************
مقدّمة:
لم يهدأ لليهود بال منذ قدموا إلى أرض كنعان، فأمضوا جلّ
تاريخهم في حروب طاحنة مع شعوب هذه الأرض من كنعانيين، و فلسطينيين، و أراميين، و
عمونيين، و مؤابيين. هذا عدا عن مناوشاتهم مع الإمبراطوريّات الكبرى في مصر و
أشور. و لم يكن هذا بالأمر الغير متوقع من شعب عرّف نفسه دائماً على أنه شعب الله
المختار الذي تعلو هامته شعوب الأرض جميعاً.
و لهذا قضى أبناء الشعب
اليهودي أيامهم في عزلة و تعالٍ زادا من شعورهم بالتميّز، و دفعا بهم أكثر من مرّة
نحو الشتات.
و كان من الطبيعي أن يصطدم
اليهود بالرومان بمجرد دخول نايوس بومبيوس ماجنوس إلى المنطقة لتحويلها إلى مقاطعة
رومانيّة. و عندما أدمجت اليهوديّة بسوريا، و عيّنت أسرة أدوميّة لحكم اليهوديّة،
إزداد التوتّر ليدخل اليهود في حرب ضد الجميع، و انفجر صمام التوتّر في العقد
السابع الميلادي بشكل صراع ديني، عرقيّ دموي ابتلع خلقاً كثيراً، و انتهى باليهود
إلى شتاتهم الثالث.
الفصل الأوّل:
المشهد الأوّل:
سور مدينة أورسالم. سور حجريّ
تنعكس على جدرانه أشعّة شمس الصباح، و يخفي وراءه مدينة عامرة بالحركة و الضجيج.
خارج السور أراض ممتدّة، تخلو
من الأبنية، و تنتشر فيها الأشجار و الصخور.
يقود باتجاه البوابة الضخمة
للسور طريق رومانيّ مرصوف، و يقف أمام البوابة ضابط "تربيون" روماني و
مساعده، و عدد من الجنود بكامل سلاحهم و دروعهم.
يتقدّم من الجنود ثلاثة أشخاص؛
رجلان، و امرأة، و تتقدم الفتاة.
جايوس
|
قفوا عندكم. ما هذه الحمولة؟
|
مينا
|
منذ متى تسألون الناس عن حمولتهم؟
|
جايوس
|
إعذريني يا آنسة، و لكن هناك ضرورة لذلك اليوم، لأن-
|
ماركوس
|
لماذا تشرح لها يا جايوس؟ (يلتفت نحو الفتاة) نحن نحكم هنا، و نفعل ما نراه.
وظيفتك التنفيذ، لا طرح الأسئلة!
(جايوس يتأمل الفتاة’ شارد الذهن).
|
مينا
|
(بسخرية) أعتذر يا سيّدي، و لكنّني أعتقد أنه اعتاد على رؤيتنا دائماً.
يبدو أنني خدعت نفسي إذ اعتقدت بأننا على معرفة.
|
ماركوس
|
ما هذه الامتعة؟
|
مينا
|
أمتعة شخصيّة، أتمنى أن لا يتم فتحها هكذا على مرآى من الجميع.
|
ماركوس
|
جايوس!
|
جايوس
|
...
|
ماركوس
|
سيّدي!!
|
جايوس
|
حسناً، ما المشكلة؟_الأمتعة_حسناً_لا بأس..
|
ماركوس
|
تقول إنها أمتعة شخصيّة.
|
جايوس
|
(يسرع بأخذها جانباً، و يبتعدان مسافة عن السور، بينما يتحدّث ماركوس إلى
اللرجلين الآخرين) كنت أنتظر فرصة كهذه! أنا_حسناً_ما اسمك؟
|
مينا
|
مينا.
|
جايوس
|
هذا اسم_أنت لست يهوديّة!
|
مينا
|
إنّه اسم فلسطيني.
|
جايوس
|
كريتيّة إذن؛ أقرب إلينا مما كنت أتصوّر..لا زالت أساطير مينوس و
المونوتور تحرّك خيال شعرائنا حتّى الآن! (يضحك) من يدري: ربّما يكون أحد
أجدادك!
|
مينا
|
ربما، و ربّما لا، فكلّ ذلك انتهى لأنني كنعانيّةٌ ترَكت أرض كريت لكم.
|
جايوس
|
و لكنّ أرض كنعان لا تزال تسمّى فلسطين..
|
مينا
|
أمر يبعث فيّ التفاؤل بعض الشيء أيّها الرومانيّ...هذا إذا لم تحوّلوها
إلى "أإرض اليهوديّة".
|
جايوس
|
آسف، لم أعرّفك بنفسي.(يمدّ يده) جايوس جابينيوس.
|
مينا
|
لبالغ أسفي، لا أستطيع أن أصافح يداً (تضع فيها الرزمة) قد تحمل سيف
هلاكنا يوماً ما. (ينظر إليها و إلى الرزمة).
|
جايوس
|
ينظر بداخل الرزمة، و سرعان ما يرفع بصره إلى مينا، حزيناً) هكذا
إذن..أنت من المتمرّدين...
|
مينا
|
أنا من المدافعين عن حقّهم في الحياة يا..جايوس.
|
جايوس
|
أنت لا تقبلين، ولا تعترفين بروما؟!
|
مينا
|
ليست روما قضيّتي الآن. أنا أحارب لاسترداد حقّ مسلوب في الوجود، و
أعدائي ليسوا جنساً معيّناً من البشر. أنا أحارب سارقي أرضي، و جلّادي شعبي
التاريخيين، أما أنتم، فلن يدمّر روماكم إلا روما. وإذا كان يشغلك قبولي بها،
فإنني بدوري أتسائل إن كنت أنت نفسك تؤمن بها...
|
جايوس
|
و كيف لا أؤمن بها؟ روما فكرة خالدة في خيال الآلهة. إنها كل شيء بالنسبة
لي!
|
مينا
|
روماني، و فيلسوف أيضاً. ألهذا استوقفتني كلّ هذه المدّة؟
|
جايوس
|
ألهذا طلبتني جانباً و لم تطلبي ماركوس؟ ألم تلاحظي بأنني معجب بك؟
|
مينا
|
كغنيمة؟ جارية؟ علام؟
|
جايوس
|
بل كإنسان آخر. الروماني الحقيقي ليس متعصّباً، و لا يرى نفسه مقدّساً من
حقّه سلب كل شيء.
|
مينا
|
ليس الروماني متعصّباً؟! ألم يكن "كاتو" رومانيّاً مكرماً_ذلك
الذي أصمّ الآذان بخطبه المختومة ب"لا بدّ من تدمير قرطاجة"؟! و ليس
الروماني محبّاً للسلب؟! ما الذي لم تسلبوه أيّها الرومان، من الذهب إلى
الفكرة؟!
|
جايوس
|
يؤسفني أن تحملي مثل هذا التصوّر عن الرومان، و لكنّني سوف أثبت لك عكس
ذلك. و إذا ما أصبحتِ يوماً ما رومانيّة، فتذكّري بأنك اتهمتنا بالتعصّب.
|
مينا
|
أشكرك، و لكنّني أفضّل البقاء على ما أنا عليه. (تعبس) ماذا ستفعلون بنا؟
|
جايوس
|
من الغباء محاولتك المرور بكلّ هذه الأسلحة، و بهذا الشكل المكشوف، و
لكنّني سوف أدعك تعبرين_و مع أسلحتك. (يجمع أطراف الرزمة، و يسلّمها لها، تم
يسير بها إلى حيث يقف الآخرون. تتمالك مينا انفعالها) و أنتما أيّها الشابّان؟
لا تبدوان من السكّان المحليّين.
|
أثبعل
|
أنا فينيقي، من صور.
|
جايوس
|
تشتهرون بالتجارة، إنّما لا تبدو عليك آثار ذلك. (يصمت أثبعل و على وجهه
كبرياء لا يخلو من الحزن) و أنت؟
|
يابين
|
أنا من أهل البلاد.
|
جايوس
|
(يأخذ أثبعل جانباً) ليس هكذا يهرّبون السلاح يا فينيقي، كن أكثر
ابتكاراً. (يلتفت للآخرين) نأسف للتأخير، تفضّلوا لحال سبيلكم. (يمرّون)
|
ماركوس
|
(غاضباً) ماذا كان في الحقيبة!؟
|
جايوس
|
(بهدوء) تذكّر بأنك تخاطب ضابطاً يعلوك رتبة. لم يكن فيها شيء، مجرّد
مجموعة من السيوف النبطيّة، و الأسنّة التي تستخدمها قبائل صحراء العرب..
|
ماركوس
|
ماذا؟! و سمحت لهم بالعبور؟!؟
|
جايوس
|
الكلّ يمتلك السلاح على هذه الأرض اللعينة، فلم لا يمتلكه هؤلاء؟
|
ماركوس
|
تعلم جيّداً أنه لا يجوز التحيّز لجانب وسط هذا الجوّ المشحون!
|
و هل هناك توازن حتى نقول بأن هناك "جوانب"؟ هناك أمراء اليهود
المتعصّبين و جيوشهم، مقابل شرذمة قليلة من بقايا الكنعانيين، و أقلّ من هؤلاء
من الفلسطينيين _الذين أبيد جنسهم_ و بعض الفينيقيين!
|
|
ماركوس
|
و الآراميون؟ لا أراهم قلّة!
|
جايوس
|
و اليونان ليسوا قلّة هنا كذلك، و لكن هذا لم يحمهم من الاعتداء. قل
لي:من اعتدى عليهم اليوم؟! ألم يكن من اليهود؟! لماذا لا يتمّ تفتيشهم؟! هذا أمر
لا يتحمّله بصمت رومانيّ حقيقيّ يرى في العدالة أقصى غاية للفضيلة!
|
ماركوس
|
سوف تجنّ و انت تحاول تحديد ما هو الروماني، و لن تعرفه في النهاية! سوف
تبقى محلّقا في سماء جمهوريّة أفلاطون إلى أن تقع على وجهك!
|
جايوس
|
جمهوريّة زينون؛ فلم تكن جمهوريّة أفلاطون عادلة.
|
ماركوس
|
و حتّى أفلاطون لا يعجبه! لماذا لا تقول بأن الآلهة لا تعجبك أيضاً؟!
|
جايوس
|
إن لم تكن عادلة و رحيمة.
|
ماركوس
|
علمت منذ البداية بإلحاده!
|
جايوس
|
لا بد من وجود رحمة وعدالة بطريقة ما_لدى شخص على الأقلّ_في كلّ حلقة من
حلقات الزمن القاسي.
|
ماركوس
|
شخص كهذا لا بد أن يكون مهمّاً و متمكّناً ليجرؤ على مجرّد التفكير
بالعدل! العدل ليس نعمة ل"تربيون" لأنه لا يملك من الأمر شيئاً..! قد
يكون العدل موجوداً، إنما _صدّقني_ حتّى الآلهة لا ترى فيه أكثر من وسيلة
للمباهاة فيما بينها!!! أما الرحمة_ هأ! تذكّر أن جايوس قيصر، الذب لا يزال
الشعراء يتغنّون برحمته، لم يرحم إلّا عندما أصبح سيّد روما بلا منازع! و حتّى
رحمته تلك التي احتقر بها العالم كانت حماقة ردّت رحمته الساخرة إلى نحره..
|
جايوس
|
عندما أكسب صديقاً مخلصاً من أبعد بقعة في بلاد الغال مثلك يا ماركوس،
أُقدّر أيّ مقدار ضئيل و "ساخر" من الرحمة كان يملك. عندما أكسب نعمة
كهذه فلن يهمّني إن دعوا رحمتي ساخرة أم عظيمة..أما ذلك الموت، فلن يهمّني، إنما
سأتشرّف به، حتى و إن لم يدر به أحد...لا_ليس سادة العالم الوحيدين الذين يملكون
حقّ تعريف العدالة.
|
ماركوس
|
يبدو لي سببا أقوى أن تلك الفتاة قد سلبتك عقلك.
|
جايوس
|
ربّما..و لكنّ ذلك كان قبل أن أعرف أنها ليست من اليهود.
|
ماركوس
|
كنت تحسّ بذلك، فليس من الصعب تمييز سلوك اليهود كما تعلم.
|
جايوس
|
لا يذنّبني ذلك بشيء، و يحقّ لي. لقد فتَحت عينيّ على عالم كنت أراه ولا
أبصره. تخيّل إنني لم أحس بمعاناة هؤلاء الناس إلّا الآن! أرأيت ذلك الرجل
الفينيقي؟ الفينيقيون الذين كانوا سادة البحر، وعلّموا العالم كيف يكتب!! قرطاجة
التي كانت في يوم من الأيّام أخطر غريم لنا!!؟ ألم تفكّر يوماً بأننا سننتهي
هكذا: في مثل هذا الهوان؟!
|
ماركوس
|
"الموت غاية كلّ الأشياء". و الشمس لن تشرق على روما إلى
الأبد. يوماً ما، ستتوارى خلف الأفق تاركة إيّانا غفاة في الظلام.
|
جايوس
|
أتعرف كلّ هذا ولا تتأثّر؟! أم إنك لا تدرك ما تعرف؟
|
ماركوس
|
لا يهمّني. كلّ ما أعرفه هو بعض القيم عديمة المعنى، و الإخلاص لرفاق
السلاح، و كسب الخبز للعائلة؛ أما الكلمات، فأتركها للشعراء، و الأسئلة أتركها
للفلاسفة.
|
جايوس
|
و لكن الإمبراطوريّة ستتعفّن و تموت إذا آمن جنودها بأنها سائرة إلى
الموت..! ستموت و معها القيم و العائلة!
|
ماركوس
|
لا يمكننا التساهل بإدخال أسلحة إلى المدينة!
|
جايوس
|
لا تتهرّب.
|
ماركوس
|
بل كن أنت واقعيّاً! نحن لسنا آلهة! كم جبهة تريد أن تفتح علينا؟! ألا
تكفينا حرب اليهود؟
|
جايوس
|
كم جنديّاً رومانيّاً تمكّن ألعازر، و مناحيم، و شمعون من رشوتهم حتى
اللحظة؟ كيف كان بالإمكان التساهل في ذلك؟! أليس هذا ما أشعل النار؟!
|
ماركوس
|
يبدو أن فينوس أضحت قادرة على أن تخلق في الرجال ضمائر...أرجو أن لا يطول
هذا المرض كثيراً.
لا يمكنك منع الرشوة يا جايوس..حتّى أجريبا و فلوروس لا يمكنهما ذلك، ولا
يعلم أحدهما أو كلاهما كم يملك اليهود من السلاح..
دعنا نراجع الذي حدث اليوم: أحد أمراء اليهود تذكّر صلب فيلكوس لبني قومه
في قيسارية فجأة، فاحتفل بالذكرى بمذبحة راح ضحيّتها العشرات من اليونانيين و
الآراميين. هل تراني مهزوزاً؟ لا! أأقول لك لماذا؟ لانّها مدبّرة؛ لأن من مصلحة
جالوس، حاكم سوريّا العتيد، أن يقوم اليهود بثورة لا يتمكّن أجريبا و فلوروس من
السيطرة عليها..و من مصلحة فلوروس أن ينشغل الرومان باليهود بدلاً من محاسبته
على سرقاته و سفالته. و لهذا يتلقّى الرومان الرشاوى، و يتجوّل مناحيم و ألعازر
و من لفّ لفّهما بكامل العدّة الحربيّة. أما أصدقاؤك الجدد الذين جمعتك بهم
فينوس، فلا يحسب لهم جالوس حساباً، ولا وزن لهم عنده....!
|
جايوس
|
يا إلهي، كم أنا أعمى! و كم أنت أعمى أيضاً يا ماركوس، بالرغم من أن
عينناك مفتوحتان..!
|
ماركوس
|
لا أريد أن أفقد صوابي. أنا أرى _من كلّ ما أرى_ ما أريد. أما ما عدا
ذلك، فلا أرى شيئاً. انظر، ها هو عزيزنا مناحيم قادم.
(يتقدّم الأمير مناحيم مع جماعة من اليهود)
إلى أين هذه المرّة يا أمير؟
|
مناحيم
|
و ما شأنك يا روماني؟ أنا أدخل أورشليم _مدينتي_ ولا أدخل روما.
|
ماركوس
|
حيث ترى رومانيّاً، تكون روما... يا يهودي.
|
مناحيم
|
أرى الرومان كثيراً في المواخير، و الحمّامات العامّة! (يضحك رجاله، و
تتقدّم مجموعة من الجنود، إلّا أن جايوس يوقفهم بإشارة من يده) ينزعجون من
الحقائق، هيء! ابتعدوا عن طريقنا!
|
ماركوس
|
(يتقدّم منحّياً قائده) لماذا تتجوّل بدرع؟
|
مناحيم
|
أحبّ شكله...
|
ماركوس
|
وأنا لا أحبّه عليك!
|
مناحيم
|
ليس لكم الحق في سلبنا دروعاً نستخدمها لحماية انفسنا!
|
ماركوس
|
حقّاً؟ سنرى. يا جنود! (تتقدّم مجموعة من أربعة) أقنعوا صديقنا و رفاقه
بأنه لا لزوم للسلاح "الإضافي" في مدينة نحميها.(يسلّم مناحيم درعه و
سيفه، مبقياً خنجراً على وسطه، و يحذو حذوه الباقون) أرجو أن تكونو هادئين في
المدينة.
|
جايوس
|
هل هذا من أجلي، و أمثالُ جالوس و فلوروس يغضبان لهذا؟!
|
ماركوس
|
مرّة واحدة فقط_ من أجل صديق. ثمّ، لكلّ شيء غايته الخاصة.
|
جايوس
|
كالنكاية بي؟
|
ماركوس
|
بل تبصيرك.. (يبدو على جايوس عدم الفهم) لم تلحظ سيوف السيكاي في قمصانهم
بالطبع؟ (يهز رأسه) هؤلاء قوم يعرفون كيف يهرّبون أسلحتهم..(يبدو على جايوس
الاستفزاز، فيغيّر ماركوس موضوعه)
انظر إلى ذلك المسيحي القادم.
|
جايوس
|
تعرف أمثاله من بعيد.
|
ماركوس
|
نعم: مجانين.
|
جايوس
|
أجدني أميل إليهم. (يقف المسيحي أمامهما) لماذا تاتي لوحدك؟
|
المسيحي
|
لست لوحدي، فالرب معي على الدوام.
|
جايوس
|
ألا تحقدون علينا: أوّلاً الناصريّ، ثم بولس؟
|
المسيحي
|
إنّها إرادة الربّ يا بنيّ. أنا أفرح للقدّيس بولس، لأنه في ملكوت الله.
و أغتبط له، لأن المسيح قال: "من آمن بي، وإن مات، فسيحيا".
|
جايوس
|
عالمكم غريب أيّها المسيحيّون!
|
المسيحي
|
ليس بعالمنا، فملكوت الربّ مفتوح للجميع.
|
ماركوس
|
تفضّل نحو شؤونك أيّها الرجل! ليس لدينا وقت للحديث عن السماوات؛ تكفينا
مشاكل الأرض!
|
المسيحي
|
(لجايوس) فلتحلّ عليك البركة يا بنيّ، لأن في قلبك نوراً. (يلتفت إلى
ماركوس) فليفتح الرب قلبك لنوره، لأنك مخلص في محبّتك.
|
ماركوس
|
و ما أدراك؟ ثم لن استطيع العيش بقلب مفتوح. أفضّل ما أنا عليه. هيّا
توجّه لحال سبيلك!
|
المسيحي
|
"طوبى للغرباء لأنهم يرثون مملكة الله" (يتوجّه نحو الأسوار،
حتّى يختفي).
|
ماركوس
|
كنت أحبّك أكثر وأنت في جمهوريّة أفلاطون.
|
جايوس
|
أنت تنسى نفسك كثيراً، و تنسى انني قائدك.
|
ماركوس
|
و انت تنسى أنهم قد ينقلونك لانك أصبحت تميل إلى الجميع يا_
"سيّدي".
|
المشهد الثاني
معبد الآلهة عشيرات في بيت إيل؛
مكان مرتفع تتقدّمه ساحة. في مقدّمة المعبد باب كبير ينتصب أمامه
"العمود" و "المذبح" المقدّسان، و إلى الجانب شجرة وحيدة.
سبعة من الكهنة يتقدّمون جوقة
احتفاليّة تمرّ وسط عدد كبير من الناس. في المقدّمة مجموعة من الفتيات بملابس احتفاليّة
ملوّنة، يحملن أمامهنّ جراراً مملوءة بتقدمات الزيت و الخمر، و على الجانبين فتية
يعزفون على آلات نفخ نحاسيّة و خشبيّة، و آخرون يستخدمون آلات نقر، فيما يسير
الموكب الدينيّ المكوّن من كهنة و سدنة المعبد في الوسط. يقف الكاهن الرئيس أمام
المذبح، و يشعل البخّور.
في مقدّمة المشهد، يقف أثبعل
مستنداً إلى عمود يحمل نقشاً لعشيرات، و إلى جانبه مقعد حجريّ. تجلس إيسابل و
عثليا على المقعد و هما منشغلتان بالنسج. أثبعل ينظر حيناً إلى الاحتفال، و آخر
إلى ما تنسجه الفتاتان.
إيسابل
|
لماذا لا تجلس؟ انت تثير الشكوك بوقفتك هذه، فإما أن تذهب إلى الاحتفال،
و إما أن تجلس متفرّجاً.
|
أثبعل
|
أشعر بالقلق يا إيسابل، لقد تأخرت مينا و يابين كثيراً.
|
إيسابل
|
ألا تلاحظ أنّك أصبحت تشكّ بتصرّفاتها كثيراً؟
|
أثبعل
|
طبيعي، فالبارحة كانت تتحدّث مطوّلاً مع روماني، و الآن تصادق اليهود_انظرا:
هذا هو أحدهم! (تدخل مينا مع دافيد).
|
أثبعل
|
(لمينا) من الرجل؟
|
دافيد
|
أُدعى دافيد.
|
أثبعل
|
علمت أنهم قادمون لا محالة!
|
مينا
|
لا تكن فظّاً، إنه صديق!
|
أثبعل
|
أراهن على ذلك، و لكنّنا لن نختلف الآن، أين يابين؟
|
دافيد
|
لم يذهب مع رفاقكم.
|
أثبعل
|
(يرفع حاجبيه) و ما ادراك أنت؟
|
دافيد
|
(وعلى وجهه ابتسامة باهته) يقول أنه لم يكن مستعدّاً لفقدان حياته في
قيسارية، في مشكلة بين اليهود و اليونانيين...
|
أثبعل
|
ولهذا اصطحبت مينا يهوديّاً بدلاً منه؟!
|
مينا
|
إنه فلسطيني مثلنا!
|
أثبعل
|
بالتأكيد: دافيد_فلسطيني. هل هناك نسخ أخرى منه؟
|
مينا
|
(بحدّة) كثيرون. و لكنّك و يابين لا تريدان أن تبصراهم. لقد هاجمت عصابات
ألعازر بيت دافيد، وبيوت آخرين مثله، لأنهم أرادوا العيش بيننا بسلام، و ها هم
مشرّدون و عائلاتهم في أريحا و قمران و سكيثوبوليس!
|
أثبعل
|
مهما يكن، أنا لن أثق بيهودي.
|
عثليا
|
هذا رأيك أنت، أمّا أنا فقد شهدت حملة ألعازر على مساكن أبناء
جلدته...ربما يكون كلام مينا معقولاً، فهؤلاء الذين تشرّدوا في أريحا يعيشون
بيننا، نتقبّلهم و يتقبّلوننا.
|
أثبعل
|
ولن نخسر شيئاً لو كسبناهم إلى صفّنا؟
|
إيسابل
|
(تضرب ركبتها بيدها) إنه تاجر، الفينيقيّ الملعون! (يقترب يابين)
|
عثليا
|
ها هو ذا الآخر..(تنظر إلى دافيد) ستضطر أن تحتمل كليهما.
|
دافيد
|
أعرفه جيّداً.
|
مينا
|
لقد أنقذه من ألعازر ليلة البارحة.
|
أثبعل
|
أفَعَل؟!
|
مينا
|
و لم يثرثر حول ذلك.
|
أثبعل
|
ربّما لهذا سيضطر يابين إلى أن بفكّر بالتعاطف معه!
|
إيسابل
|
و من ذا الذي يستطيع إقناع يابين باستخدام دماغه بدلاً من يده؟
|
يابين
|
ليس سيفي بأكثر حدّة من لسانك يا إيسابل!
|
دافيد
|
(مخاطباً أثبعل) أنا لا أبحث عن تعاطف، و أفهم تماماً لماذا لا تريد أن
تثق بي. لقد جئت _لا كجنديّ طيّب القلب يفرّ من جيشه عارضاً خدماته للطرف الآخر_
و إنما كإنسان ينتمي للأرض، ولا يجمعه مع من يراهم غزاة من بني قومه سوى الدم.
(ينظر إليه أثبعل دون كلمات).
|
إيسابل
|
(لعثليا) لن يعود شقيقك للسخرية مرّة أخرى.
|
مينا
|
ممّا يتيح لي الفرصة لشرح الوضع في قيسارية.
|
يابين
|
أخيراً! ماذا حدث؟
|
مينا
|
مذبحة! لقد قتل اليهود عشرات اليونانيين، و هؤلاء يتحرّقون طلباً للثأر.
|
إيسابل
|
(مقاطعة أثبعل قبل أن يتكلّم) سيقول لكم أثبعل الآن أن علينا استغلال غضب
اليونانيين ضدّ عدوّنا..
|
يابين
|
أنا لا أفهم؛ كيف يمكن أن يحارب اليونانيون معركتنا؟ إنّهم دخلاء أيضاً.
|
أثبعل
|
(ساهماً) لن يحاربو من أجل قضيّة. سيحاربون دفاعاً عن أنفسهم.
|
عثليا
|
يمكننا التحدّث معهم إذن و شرح عدالة حقّنا في الأرض التي كانت لنا قبل
مجيئهم بقرون..ربّما وقفوا معنا في نهاية الأمر...
|
أثبعل
|
شقيقتي المتحمّسة..! لا تُحسَب الأمور هكذا في هذا العالم.
|
عثليا
|
في ظلّ هذا الوضع؟ ممكن، فالجميع يعلم أن اليهود كانوا أول غزاة بدأوا
حرب الإبادة.
|
أثبعل
|
لا تكوني ساذجة يا عثليا.
|
يابين
|
حسنا، فلننته من كثير الكلام. أنا راضٍ عن أيّ يونانيين ما داموا سيقتلون
اليهود_ (يفطن إلى وجود دافيد فينخفض صوته و يتلعثم) على أيّة حال..
|
مينا
|
كم أنت دموي و متقلّب! إننا نتحدّث عن أسبقيّة وجودنا على الوجود اليهودي
طيلة الوقت، و ننسى مسألة أهم هي هدفنا، و كيف نختلف عنهم بسببه! هم ابتغوا
دوماً إخراجنا من الوجود لأنهم يرون وجودهم فوق وجود جميع الشعوب التي سكنت _ولا
تزال تسكن_ هذه الأرض. و نحن اختلفنا لأن وجودنا لا يقتضي إلغاء وجود أيّ شعب،
ولا يهدّد أيّ وجود آخر_حتّى وجودهم! أنسيتم بأن هذا هو ما نحارب من أجله؟ و أنه
مبرّر حربنا من أجل وجود شعبنا و حضارتنا_
|
يابين
|
كيف لا يقتضي وجودنا إلغاء الوجود اليهودي ما داموا يريدون إلغاءنا؟!
|
مينا
|
بأي شيء سنختلف عنهم إن كنّا نريد إبادتهم؟
(يدخل ألعازر مع عصبة من رجاله من الناحية الأخرى. ينظرون حولهم ثمّ
يتّجهون نحو المجموعة. يمتشق أثبعل و يابين سيفيهما)
|
يابين
|
ماذا تريد؟
|
ألعازر
|
هذا! (يشير إلى دافيد).
|
يابين
|
(يحول دونه) فوق جثّتي الهامدة! (دافيد و مينا يبدوان مندهشين).
|
ألعازر
|
لن يسرّني شيء أكثر من هذا..!(يتقدّم خطوة).
|
أثبعل
|
(همساً ليابين) فرصتك لسدّ دين ثقيل..(يتقدّم باتجاه ألعازر) انصرف من
هنا!
|
ألعازر
|
أرى الفينيقيين وقد أصبحوا كثراً في أراضينا.
|
أثبعل
|
أمرٌ تُشكَرُ عليه الآلهة.
|
ألعازر
|
(يبصق على نقش عشيرات) هذه هديّتي لآلهتكم، و سوف أتقدّم قريباً بشكر
أكرم..قل إنّ هذا هو الغلاف، دون المحتوى.
|
دافيد
|
محتواك قي غاية الضآلة على ما يبدو، و إلّا كنّا خمّناه من تحت الأغلفة.
|
ألعازر
|
ابن الكاهن أمسى كنعانيّاً، فلم يحتلّوا أرض إسرائيل فقط، و إنّما شعبها
أيضاً! و ها هم يدنّسونها بمجونهم!
|
دافيد
|
(لألعازر) هل جرؤ أحدكم على اتهام الرومان بذلك؛ من بومبيوس إلى جالوس؟
أم أن شجاعتكم تظهر سرّاً فقط؟!
|
ألعازر
|
لم يقف في وجه الرومان سوانا!
|
أثبعل
|
ولذا سجد أمراؤكم لدى أقدام بومبيوس، و أولوس جابينيوس، و أغسطس، و
تيبريوس..حتّى نهاية القائمة.
|
ألعازر
|
كانوا خونة عاملهم الشعب اليهودي كما يستحقّون.
|
يابين
|
كما تريدون أن تفعلوا بهذا الرجل. (يلتفت إلى الصبايا) خذنه من هنا.
(يخرجن مع دافيد).
|
ألعازر
|
(يحاول اعتراضهنّ، و لكن الرجلين يحولان دون ذلك). لقد أطلق الله أيدينا
في رقاب الوثنيين و من والاهم، و سنصل إليه!
|
أثبعل
|
لا غرابة، فأنت مقدّس يا إسرائيلي، كما هي كلّ عصابتك..تثورون على
الرومان بعد أن تعاهدوهم على الصلح، ثم تتعاونون مع الفرس، ثم تتركونهم لتعودوا
للرومان، ثم للشيطان، ثمّ لله_سحقاً لكم!
|
المسيحي
|
(مع مجموعة من رفاقه، يسيرون بين الناس) "أحبّوا أعدائكم. باركوا
لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، و صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم لكي تكونوا أبناء
أبيكم الذي في السموات..."
|
يابين
|
وهذا؟ أليس يهوديّاً مؤمناً بالله و صلبتم نبيّه؟
|
ألعازر
|
صلبه الرومان.
|
أثبعل
|
و من سلّمه إلى بيلاطس؟
|
ألعازر
|
سؤال ضعيف؛ لا يمكن لأحد أن يعرف تماماً من.
|
أثبعل
|
أكيد، فالمكر، و العمل في الخفاء طبعان يهوديّان أصيلان.
|
يهودي
|
(يرفع صوته فجأة، ملوّحاً بسيف السيكاي) سحقاً لكل الوثنيّين!
(يتلفّت الجميع حولهم ليكتشفوا أنها إشارة، إذ تندفع مجموعات كبيرة من
الرجال المسلّحين، الذين يهاجمون الموكب الديني، و الجمهور في الساحة).
|
المشهد الثالث
في الخلفيّة منظر للسوق في قلب
مدينة أورسالم؛ محلّات تجاريّة صغيرة، بعضها ذات مداخل مقوّسة، و أخرى ذات زوايا مستقيمة،
تتوزّع على شارع ضيّق مرصوف. أُناس يروحون و يغدون.
تجلس مينا، و إيسابل، و عثليا،
و يابين و أثبعل على مقاعد خشبيّة في داخل محلّ تجاريّ، و من خلفهم أدوات نحاسيّة
و فخّاريّة، و أقمشة تتوزّع في زوايا مختلفة من المتجر.
يدخل عدد من المحاربين
الآراميين و الفينيقيين و الكنعانيين و غيرهم، و تبدو آثار التعب و الحزن واضحة
على محيا بعضهم.
يابين
|
(ساهماً وعلى وجهه تعابير الحزن و الألم) لقد حوّلوا معبد عشيرات إلى
ركام..ما الذي لن يرتكبوه بحقّنا لو مسسنا بهيكل إلههم؟! لم نستطع المساس بهم
لأنّهم لا يخافون منّا...لأننا لم نهاجم معابدهم_لأنهم لم يعيشوا الرعب الذي
يبثّونه بمجازرهم! لم يعد لدي شكّ بأن الرعب هو اللغة الوحيدة التي يفهمونها_
حتّى الرومان يحسبون لهم ألف حساب، ولا يقيمون لنا وزناً...
|
مينا
|
أتريدنا أن نستخدم نفس أساليبهم الوحشيّة؟
|
يابين
|
نعم، لأنّهم لن يرتدعوا بخلاف لك! لقد هدموا معبد الربّة أمام اعيننا و
دعوها ب"الخرافة"..لم يمنعهم شيء...(يصمت لوهلة) ليست هناك خرافة أكثر
من "يهوة" سفّاك الدماء الذي يامر شعبه بإبادة البشر، و الشجر، و
الحيوانات!!
|
أثبعل
|
لا بد وأن تتحقّق رغبته_أنّما في شعبه السافل!
|
يابين
|
نعم؛ سينبعث معبد عشيرات _كما الفينيق_ إنما بشكل يخشونه و يفهمونه، و
ستضرب الربّة بسيف يبيد شجرهم و حجرهم..
|
مينا
|
ننساق وراء عواطفنا كثيراً، ولذا يتقوّض كلّ عالم نبنيه قبل أن نضع حجر
الأساس.
|
أثبعل
|
ليس هناك من تسوقه عواطفه سواكِ، إذ تطلبين الرحمة لمن لا يرحم، و تريدين
أن يشاركنا وجودنا من لا يقبل بوجودنا أصلاً....
|
دافيد
|
(بانفعال) هذا ليس صحيحاً!
|
أثبعل
|
(ينفجر غضبه فجأة) إغرب عن وجهي أنت!
|
دافيد
|
يبدو أنه لم يعد لديّ ما أقوم به هنا. (يستدير للانسحاب).
|
مينا
|
انتظر! (تمسك بذراعه)
|
دافيد
|
(بحزن) يبدو أنّ حقيقة الأرض المقدّسة الوحيده هي كونها ملعونة..(ينسحب)
|
أثبعل
|
(متسائلاً بصدق) من أجل ماذا تقاتلين معنا بالضبط؟ أنا لم أعد أفهمك...
|
مينا
|
أقاتل دفاعاً عن البيت الوحيد الذي اعرف..الوطن الحرّ الذي أريده أن
يكون، و أعلم تماماً أنني قد لا أعيش لأراه، و لكنّني أعلم أنه كان موجوداً
يوماً ما، و سيوجد مرّة أخرى! إيماني بذلك سوف يقهر الزمن و الموت، و لعنة
المكان؛ لأن ما أؤمن به تمتدّ جذوره في الماضي لآلاف السنين...إن شعبي الذي عاش
يوماً ما بكرامته و مجده هنا يحيا فيّ، و يريد أن ينبعث مرّة أخرى؛ فينيق الحياة
الفلسطينيّ الذي ينبعث من رماده متمّماً قدرا غايته الحياة، لا تدميرها...و لسوف
أكون حيّة يوم يتحقق ذلك، و إن تكن الآلهة قد قضت بموتي.
|
أثبعل
|
كلّنا يعيش فينيقه فيه! و لكن فينيقنا أصبح كرامة مقهورة، تصرخ لانبعاث
من نوع آخر...نوع يفهم لغة الرعب التي تقتل كل انبعاث لحظة ميلاده..(يزداد
انفعاله) لنا الحق في استخدام الرعب، الذي كنّا نحارب ضدّه، للوصول إلى غايتنا؛
إلى انبعاثنا!! و عندها..عندها_(يصبح صوته حزيناً) الزمن لا يكفي، ولا يرحم لحظة
طهارة واحدة ما لم تكن هناك قوّة تحمي براءتها...لا تعيش النعاج في الغابة يا
مينا! البقاء في الغابة لا يكون إلّا لذوات الظفر و المخلب..(بانكسار و مرارة)
نعم..هذه هي حقيقة هذه الأرض الوحيدة..
|
مينا
|
(بصدق مثقل بالمرارة)هل كنت مخطئة طوال ذلك الوقت؟
|
أثبعل
|
كنتِ طيّبة القلب أكثر مما ينبغي؛ لم تفهمي الغضب المقدّس.
|
يابين
|
إذا كنتِ لا تشعرين بالحقد على من مرّغوا بالتراب كرامة شعبنا _ممّن
انتزعوا أرضنا ثمّ دعونا بالأغيار_ فأنتِ كذلك!
|
آرامي
|
أتّفق معه؛ لا واجب يعلو واجب الانتقام ممن سلبونا مجدنا، و سرقوا
حضارتنا!
|
مينا
|
الانتقام؟! المجد!؟ الغضب المقدّس؟! لم أعد أعرف وسط هذا الكم من العواطف
الحادّة أين أتّجه...لم أعد أعرف ما هو دافعي، و لماذا كنت أقاتل! لم أعد أعرف
حتّى أصدقائي و أبناء شعبي...!
|
فينيقي 1
|
لا يا مينا..ثمّة من لا زال يؤمن بأن دافعنا هو ما نؤمن به ولا نغيّره
لما يحلّ بنا من نوائب.
|
أثبعل
|
(يضع يده على كتفها برفق) يصنعون التاريخ بالسيف يا مينا..
|
مينا
|
السيف! أهذا كلّ ما تعرفون!؟ ماذا عمّا يحكم السيف؟! كيف نختلف عن مناحيم
و ألعازر؟!!
|
فينيقي 2
|
نختلف: نحن لم نغتصب أرض أحد!
|
كنعاني
|
نحن أصحاب حقّ!
|
أثبعل
|
أعلم كم تؤمنين بذلك يا مينا، إنّما كوني أقرب للواقع.
|
مينا
|
يا آلهتي! هل أعميت بصري طيلة ذلك الوقت؟! (تتراجع للخلف) هل أعميتني، أم
إننّي تغاضيت؟؟ تبّا...! (تخرج).
|
يابين
|
و لكن قد....
|
أثبعل
|
لن تذهب مينا بعيداً. لقد صدمها العنف، كما يصدم كلّ النساء، لكنّها
ستعود، و ستعود أقوى.
|
إيسابل
|
لقد كنتما في غاية الوقاحة.
|
عثليا
|
لنبحث عن دافيد و نعتذر له.
|
فينيقي 1
|
لقد تحدّثتم كثيراً فيما لا أفهم فيه، و لكنّني لا أزال أذكر ذلك اليهودي
دافيد الذي طردتموه الآن، و أذكر وجه شقيقه المحترق أمام معبد عشيرات، ممّا
يجعلني متّفقاً مع مينا، لا معكم. (يجول ببصره بين المحاربين الذين يتبادل بعضهم
النظرات، و كأنما يفكّرون فيما قيل. يستدير الفينيقي خارجاً، لكنّ قدوم دافيد
يفاجئه) يا للآلهة!
|
دافيد
|
(لاهثاً) مجزرة! عصابات مناحيم تهاجم السوق! إنهم بالمئات!
|
أثبعل
|
(يحدّق فيه وقد أخرسته الصدمة) ما..ماذا..!؟
|
يابين
|
(للكنعاني) بسرعة! إجلب رجالنا!
|
دافيد
|
إنهم في أعقابي...
(تعمّ الفوضى المكان فجأة. مناحيم و رفاقه يوزّعون الأسلحة على اليهود
الذين يتراكضون و يهاجمون، بينما يتفرّق الناس في جميع الاتجاهات. يحاول بعض
المسيحيين تهدئة الوضع، لكن تيّار الفوضى يجرفهم).
|
مناحيم
|
الموت للأغيار! الموت للغزاة! إخرجوا للدفاع عن الوطن أيّها الوطنيّون!
الأغيار يغزوننا من سوريّا! إنهضوا للدفاع عن هيكلكم و عن دين آباءكم و أجدادكم!
|
مسيحي
|
لا يا أبناء الشعب! التزموا بيوتكم، و ارحموا أنفسكم و أورسالم! إنّه
يكذب! لقد قتل رئيس كهنة الهيكل! لا تطيعوا القاتل مناحيم!
|
مناحيم
|
(يطعنه بسيفه من الخلف، و يخرّ المسيحي صريعاً). إنه سوري من أتباع
الجليلي مدّعي النبوّة! إنه عميل للرومان!
|
يهودي
|
الموت للجبناء و الخونة!
|
مناحيم
|
لن يسلَم من يلتزم داره! لن يحيا من لا يحمل السلاح دفاعاً عن وطنه!
|
ألعازر
|
(مخاطباً أسماع اليهود المتجمّعين من حنود الأميرين) اسمعوا ما يقول قاتل
الكهنة؛ الجبان الذي سبّب تهاونه كارثة في الجليل! الرجل الذي سمح للآراميين
بغزو الشمال!
(تدخل مجموعة من الكنعانيين و الفينيقيين و غيرهم، و بينهم أثبعل و
يابين، و دافيد.
|
مناحيم
|
ها هو ذا الخراب آتٍ لمنطقة أنت تحميها، و كلّه من تهاونك، و تهاون
كهنتك. انظر ابنَ أحدهم هناك لترى حقيقتكم!!
|
ألعازر
|
سأتفاهم معك فيما بعد. (يهاجم أوّل من يقترب بسيفه) بعد أن أنتهي من
الأغيار السفلة!
ترتفع صرخات الحرب، و يعلو الغبار
|
المشهد الرابع:
يحلّ المساء. تكاد الشمس تغرب
في الأفق، بينما تظهر أسوار أورسالم عبر أشجار الغابة على جانبي الطريق إليها وقد
اكتست بلون الغروب. تسير مينا في الغابة وحيدة، تختفي بين الأشجار، ثم تخرج بسيف.
و قبل أن تخفيه، يفاجئها شخص فترفع السيف أمامها بحركة لا إراديّة.
جايوس
|
(يرفع يديه أمامه) لا داعي للسيف، هذا أنا.
|
مينا
|
(تلقي بالسيف أرضاً، بعصبيّة). تبّاً!
|
جايوس
|
(يقترب) ماذا؟ أتبكين؟!
|
مينا
|
ماذا تريد منّي أيّها الروماني؟
|
جايوس
|
(حزيناً) لا شيء...أعتذر...رأيتك تسيرين وحدك، و خفت...خفت عليك...
|
مينا
|
أشكر لك مشاعرك الرقيقة، و لكنّني لا أحتاج حماية من أحد.
|
جايوس
|
ماذا حدث لك؟ هل آذاك أحد؟
|
مينا
|
لا شأن لك! كلّكم من طراز واحد؛ ترون وراء كلّ شيء سيوفاً و رماحاً و
تعشقون سفك الدماء! (تجلس أرضاً، و تغطّي وجهها بيديها).
|
جايوس
|
(ينحني، محافظاً على مسافة بعيدة نسبيّاً منها) أأصابك واقع الأمر بصدمة؟
أوجدت أن الحقيقة تختلف عمّا في عالمك المنشود؟ (يرفع رأسه نحو السماء، سارحاً)
أكتشفت أن ملايين البشر الذين ساروا منذ بروميثيوس، بنفس الإيقاع الرتيب للأقدام
على التراب، قد انتهوا دوماً إلى نفس النتيجة؟ أكتشفت أن كل ما وصل إليه الفانون
من مدنيّة لم يكن سوى طيف لسلاح أشدّ فتكاً و تأثيراً من حجم المدنيّة التي
يفتخرون بها؟ أكتشفت أنك انتهيت _بطريقة ما_ عدوّة لكلّ ما حاربتِ من أجله؟!
(يحدّق بها) إذن ماذا يبكيكِ؟!
|
مينا
|
كيف تعرف ذلك؟
|
جايوس
|
لأننا متشابهان...
|
مينا
|
لا ينقصني سواك، و كأن مصائبي لا تكفيني. لماذا تراقبني؟!
|
جايوس
|
لم أكن أراقبك. عيناك تقولان أكثر مما يمكن لأي رقيب أن يقول. أنا أتفهّم
معاناتك، و إن كنت لا أعرف تفاصيلها تماماً، و كنت أتوقّع أن لا تسيئي فهمي، و
تدركي حسن نيّتي أنت أيضاً.
|
مينا
|
لست جيّدة بقراءة العيون لبالغ الأسف!
|
جايوس
|
لا تسخري منّي. تعلمين بأنّني أقول الحقيقة.
|
مينا
|
الحقيقة؟! ماذا يتبقّى من الحقيقة عندماتسقط في الظلام الشمس التي كنت
تحارب من أجل ميلادها؟ ماذا يتبقّى من الحقيقة عندما تتكلّم بلغة لا يفهمها أقرب
الناس إليك؟! عندما تضطرّ لأن تعيش كلّ هذا القهر؟!
|
جايوس
|
لكنّ هذا هو الواقع: نفهمه فجأة، و نصاب بصدمة، و لكنّنا لا نتنازل.
عندما تفيقين من صدمتك، أنا متأكد من أنّك لن تتنازلي عن حلمك.
|
مينا
|
كيف تبدو واثقاً!
|
جايوس
|
إن لكِ إرادة قويّة ومخلصة؛ فبالرغم من الألم الذي تعيشينه، لا زلت تخفين
الأسلحة من أجل أصدقاءك، هناك...(يشير بيده) تحت الأشجار.
|
مينا
|
منذ متى تعرف ذلك؟
|
جايوس
|
أنا جنديّ منذ الطفولة، لو لم أكن أعرف مثل هذه الأمور، لما بقيت حيّاً.
|
مينا
|
ولماذا لم تقبض عليّ حتى الآن؟
|
جايوس
|
لا تسألي أسئلة تعرفين إجاباتها، أنت تعرفين شعوري تجاهك.
|
مينا
|
ما تطلبه منّي مستحيل.
|
جايوس
|
أمام الإنسان مليون من الممكنات، و من المستحيلات مليون آخر، وقد يكون
كلّ ما يرغب به واقعاً في المليون المستحيل. لم أستبعد احتمالاً كهذا، و لكنّ
لديّ أملاً، كهذا الذي يجعلك تدفنين الأسلحة و أنت في حالتك اليائسة هذه...
|
مينا
|
أتمنى لو كانت لي مثل ثقتك.
|
جايوس
|
قد لا يطول الأمر قبل أن تتحقق أمنيتك.
|
مينا
|
لم يحدث أبداً و أن تحققت لي أمنية.
|
جايوس
|
تحلمين إذن أحلاماً كبيرة جدّاً.
|
مينا
|
أهذه خطيئة؟
|
جايوس
|
بالعكس، إنّها تحدّي المستحيل! كم هو جبّار ذلك الإنسان الذي يؤمن بأنه
سيرحل إلى عالم بلوتوس المظلم قبل أن يرى حلمه يتشكّل؛ حلمه الذي قد يكون، أو لا
يكون، و لكنّه يحارب، و يموت من أجله.
|
مينا
|
كروماني يلقي بنفسه على سنان سيفه منتحراً.
|
جايوس
|
ربّما يكون هذا أنبل ما يمتلكه الروماني، إذ يقرّر قدره بنفسه، و بإرادة
واعية.
|
مينا
|
(تسرح طويلاً) لا أدري من أين خرجت لي...هل بعثت بك عشتار لتمتحنني!؟ أم
أنّك حلم _أو كابوس_ آخر؟!
|
جايوس
|
أترين؟ إننا حتّى نؤمن بنفس الآلهة: عشتار، أفروديت، فينوس...كلّها أسماء
لنفس الآلهة! (يمسك يدها فجأة، بحركة لا إراديّة) لماذا لا تثقين بي؟ لماذا لا
تؤمنين بأنّنا من طينة واحدة؟!
|
مينا
|
طريقانا مختلفان، و عالمانا مختلفان...ربما...ربما لو كنت...
|
جايوس
|
ربّما...؟
|
مينا
|
لا شيء_
|
جايوس
|
ألأنني أنتمي إلى شعب آخر؟ شعب عدوّ؟!
|
مينا
|
لا_لا أعلم...
|
جايوس
|
لن أفرض نفسي عليك.
|
مينا
|
عالمانا مختلفان يا جايوس؛ أنت تبني عالمك في شمس النهار، بينما أسترق
الخطوات في ظلام الليل ولا أرى حجارة البناء...وإذا كنت سأموت فعلاً دون أن أرى
عالمي _فمصيرنا ليس واحداً!
|
جايوس
|
في العالم الذي أؤمن به، نحن شخصٌ واحد.
|
مينا
|
عالمانا مختلفان؛ إن ارتباطي بك يعني أن أنسى قضيّتي إلى الأبد، و أقضي
على أي أمل لعالمي في البقاء.
|
جايوس
|
أنا لن أفرض نفسي عليك، لأنني أدرك مرارة الواقع...(يخلع عن معصمه سواراً
فضيّاً على شكل أفعى) أرجو أن لا ترفضي هديّتي على الأقلّ...أرجوكِ...(تتردّد
مينا، لكنّه يضعها حول معصمها) كأنها صنعت لك. لقد لبستها طوال عمري...قالت لي
جدّتي أنها _عند الموت_ تهديء الروح، و ترشدها إلى إيليزيوم، إن تاهت خارجة من
جسد لم يُدفن و يحرق كما يليق. (يتنهّد) جدّتي المسكينة، كانت سعيدة مع آلهتها و
شياطينها الخاصّة...
|
مينا
|
(تنظر إليه طويلاً) لا أدري ماذا أقول لك...أنا لا أريد أن أكون سبباً في
إيذاءك...أتمنّى لو لم نلتق في هذا الزمن، و هذا المكان...و لكنّ هذا (ترفع
سيفها عن الأرض و تقدّمه له، مقلوباً) يفرّق بيننا، و كلّ يحمله ليدافع عن شيء
مختلف.
لن أقبل هديّتك دون مقابل؛و لذا أرجو أن تقبل منّي هذا السيف، لعلّه
يمنعك، و يحول دون أن تحتاج روحك إلى من يرشدها إلى إليزيوم...بعد عمر طويلٍ على
ما آمل...
|
جايوس
|
لن أتخلّى عنه أبداً..!
|
مينا
|
(تمد ذراعها لتصافحه كما يتصافح المحاربون) كم تبدو متفائلاً...سأحافظ
على سوارك على أيّة حال.(تصمت قليلاً) لن أفقده أبداً...
أشكرك لتفهّمك يا جايوس، و لكلّ ما قمت به من أجلي.
|
جايوس
|
لا داع لذلك، لم أفعل شيئاً؛ حاولت فقط أن أكون عادلاً. فلتكن فينوس
راعيتك. حظّاً سعيداً...(يبتعد)
|
الفصل الثاني
المشهد الأوّل
غرفة في داخل برج أنطونيا
في قلب أورسالم: ظلال في خلفيّة المكان. يبدو بشكلٍ غير واضح باب يؤدّي إلى شرفة.
في يمين الغرفة نافذة واحدة صغيرة على ارتفاع رأس إنسان، و في الوسط طاولة خشبيّة
يجلس حولها جالوس، حاكم سوريّا، و أجريبا الثاني، مساعد حاكم اليهوديّة فلوروس، و
جايوس جابينيوس، و ماركوس، و ضابطان آخران برتبة سنتوريون (قائد المائة)، بينما
يقف ضابط برتبة تربيون خلف سستيوس جالوس، و جنديان لدى الباب.
جالوس
|
(يضرب الطاولة بيده و ينهض) الوضع لم يعد يحتمل، و ليس لديك أي عذر يا
أجريبا!
|
أجريبا
|
لم أستطع السيطرة على الوضع.
|
جالوس
|
أنت ملك اليهود، و حاكمهم! أين سلطتك عليهم؟! لأيّة غاية وضعناك على
اليهوديّة إذا كنت لا تستطيع السيطرة على شرذمة من الأوغاد؟! لقد مُنِحتَ فرصاً
لم تُمنَح لفلوروس!
|
أجريبا
|
لقد تحدّثت إليهم. عقدت معهم اجتماعات أمام الهيكل، و في كل مكان يحترمونه...استحلفتهم
بكل مقدّس لديهم، و لكنهم شتموني، و رجموني بالحجارة! حاولت الاصلاح بينهم وبين
فلوروس، فقتلوا حرسي، و رجموني أيضاً!! فلوروس_آه_لولا فلوروس لما حدث ما حدث! و
مع هذا، ها هو يكيل لي الاتهامات!
|
جالوس
|
إحذر ما تقوله يا أجريبا فأنت لم تكن تحدثه بكل شيء! كنت تغض الطرف عن
تهريب الأسلحة لعصابات اليهود. أين كنت يوم هاجم مناحيم قلعة مصعدة و فتح ترسانة
هيرودوس؟! أين كنت يوم إضرابات قيسارية و أوروسالم؟!
|
أجريبا
|
تهريب الأسلحة امر ينبغي أن تسألوا أنفسكم عنه، لأن قوّاتكم تسيطر على
المدن. إسأل الحاكم فلوروس!
|
جالوس
|
ليس هذا مبرّراً. لقد سلّمناكم البلاد رغم أنف الجميع، و قوّاتنا الضئيلة
لم توضع سوى لمساعدتكم. أنت الذي كنت تتولّى الاتصالات مع بني قومك، لا فلوروس!
|
أجريبا
|
الوضع أشبه بجنون! لا أنا، ولا فلوروس، ولا القوّات الرومانيّة الموجودة تستطيع
السيطرة عليه...الكهنة يُقتَلون مع الأطفال و النساء! ألعازر مشتبك مع مناحيم، و
الآراميّون يحاربون اليهود، و اليهود يحاربون الأغيار، و يحاربون بعضهم _الجميع
يحارب ضدّ الجميع..! أنتم أنفسكم لم تستطيعوا السيطرة على الوضع في قيسارية..!
|
جالوس
|
هذا لأننا اعتمدنا عليك!
|
أجريبا
|
لقد فعلت ما بوسعي.
|
جايوس
|
بعد إذنك يا سيّدي، أنا أشهد لقول الأمير، و أضيف أيضاً أن الحاكم فلوروس
قد زاد من التوتّر عندما صلب عشرات الناس بدون سبب، هذا عدا عن سرقات_
|
جالوس
|
أنت تتّهم الحاكم يا جابينيوس!
(تعلو أصوات قتال في الخارج، و تسقط حجارة عبر النافذة إلى الداخل. أصوات
تنادي بالموت لفلوروس، و أجريبا، و الرومان، و الأغيار. يلتفت الجميع عندما يدخل
جندي لاهثاً و قد أصابه حجر في وجهه. يرفع يده _ممدودة أمامه_ بالتحيّة).
|
الجندي
|
(لجايوس) سيّدي ( يتردد قليلاً ثم يلتفت باتجاه جالوس) سيّدي جالوس، لقد
هاجمت عصابات آراميّة، و آخرون وسط المدينة! لا نستطيع السيطرة على الوضع، و
العصابات اليهوديّة تتّجه إلى هنا!
|
جالوس
|
ماركوس فيتيوس!
|
ماركوس
|
سيّدي! (ينهض واقفاً)
|
جالوس
|
تولّى قيادة القوّات لحماية البرج إلى أن أكلّفك بمهمّة أخرى.
|
ماركوس
|
ولكن جايوس جابينيوس هو الضابط المسؤو_
|
جالوس
|
نفّذ، ولا تناقشّ! قد رأينا إلام يؤدي النقاش.
|
ماركوس
|
حاضر. (يخرج آخذاً معه قائدي المائة)
|
جالوس
|
لم يعد من الأمر بدّ؛ سأعسكر قرب أوروسالم، و غداً أقضي عليهم! (يلتفت
نحو جايوس)
ستتوجّه أنت إلى قيسارية.
|
جايوس
|
ولكن_
|
جالوس
|
لم أنته بعد. سوف تكون تحت إمرة مساعدي (يضع يداً على كتف الضابط خلفه)
إلى أن تصل مقصدك. من هناك، ستسافر إلى روما و تبعث بكتابي هذا (يعطيه لفّافة)
إلى قيصر.
|
جايوس
|
لقد أعددت الأمر سلفاً إذن...
|
جالوس
|
هناك أشياء كثيرة كان ينبغي عليك أن تفهمها ضمنيّاً، و أشياء أخرى كان
ينبغي ألّا تفهمها أبداً..أنا _على كلٍّ_ أعمل لمصلحتك. مكانك لم يعد هنا يا
جابينيوس.
|
جايوس
|
أنت تلعب بالنار يا سيّدي.
|
جالوس
|
من مثلي يستطيع ذلك، و بأمان تامّ.
|
جايوس
|
أتعتقد أنهم لن يحاسبوك في روما؟
|
جالوس
|
(يقهقه ضاحكاً) يخافون السلام _لا الحرب_ في روما. روما مدينة علا روحها
الصدأ، و ثملت بما شربته من دماء؛ لا تولد الحياة فيها إلّا من رَحِمِ الموت.
|
جايوس
|
تذكّر أنّك قلت ذلك، عندما تُحاسب عليه. و تذكّر أنك تعبث بمصائر ملايين
البشر، ولا يمكن إخفاء الحقيقة طويلاً.
|
جالوس
|
(يجيل بصره بين الجالسين ببرود) ما أوقح هذا الشاب..و مع هذا لا أزال
أحرص عليه..تحدّث بما تشاء يا بنيّ، كرامة لذكرى أبيك، ولا تكن خائفاً، فلن
يستمعوا إليك على أيّة حال. (يلتفت إلى أجريبا، و يسير نحوه، ثم يربت على كتفه)
أجريبا فهم الدرس جيّداً قبلك. (يخاطب مساعده) انطلقا!
|
المساعد
|
حاضر يا سيّدي! (يمسك بذراع جابينيوس، و يخرجان).
|
جالوس
|
قريبا سوف ترتاح من عبئك يا أجريبا.
|
أجريبا
|
(يبدو عليه الانكسار) لقد طردوا بيرنيكي من أورشاليم.
|
جالوس
|
شقيقتك؟
|
أجريبا
|
و زوجتي أيضاً.
|
جالوس
|
آه، عدوى أصدقاءك البطالمة! و لكنّك تعلم أن زواجاً كهذا يثير مشاعر
قومك..
|
أجريبا
|
(يرفع عينيه، ناظراً إلى جالوس، ثم يهزّ رأسه) لا أريد سوى أن أعيش
بسلام. لقد سئمت أرض اللعنات هذه! سئمت الدسائس والمؤامرات..سئمت استغلال حياتي
الشخصيّة وسيلة_ (يغطّي وجهه بيديه، و يصمت لفترة) لم أعد أحتمل! لقد كدت أُقتَل
البارحة؛ اثنان من حرسي ضُربا حتّى الموت، و بيرنيكي وحيدة في كابادوكيا لا أعرف
عنها، ولا تعرف عنّي، شيئاً! أنتم تضغطون عليّ، و شعبي يضغط عليّ، و الكلّ
يتّهمني، و يستخدمني كجسر..لقد أباح أمراء اليهود جميعاً دمي!
|
جالوس
|
لن تعدم المكافأة، و السلام الذي تنشد؛ منذ الغد، ستتوجّه إلى كابادوكيا
و تأخذ زوجتك، و من هناك تتوجّه إلى روما. سوف تقابل قيصر نيرون شخصيّاً و تشرح
مسألتك أمامه. سلامك المنشود بعيداً عن هذه البلاد مرهون بما سوف تقوله أمامه، و
الذي سوف تشرح فيه كيف فقدت السيطرة على الوضع هنا. سأبعث معك بكتاب معه لن
تضطرّ للعودة، فأنت هناك مواطن رومانيّ. (ينادي الجنديين لدى الباب) رافقا
الأمير إلى جناحه، و ابقيا هناك لحراسته حتّى موعد السفر.
|
جالوس
|
(وقد ظلّ وحيداً) ستتعلّم روما أخيراً كيف تثق بجالوس!
|
المشهد الثاني:
غرفة صغيرة في بيت تحت
مستوى سطح الأرض في وسط مدينة أورسالم. البناء مشيّد بحجارة عتيقة كما يبدو من مظهر
الغرفة. يقبع تمثال لعشتار ساكناً في كوّة في الجدار الأيمن، و في الزاوية اليمنى
البعيدة جرار قديمة. تحتلّ وسط الغرفة طاولة خشبيّة، تتحلّق حولها إيسابل، و
عثليا، و مينا. تعمل النساء الثلاثة على تشحيم و شحذ بعض السيوف أمامهن. يدقّ الباب فجأة، و تتبادل النساء النظرات و قد
اعتراهن القلق.
مينا
|
(بشيء من الخوف) من بالباب؟ (لا يجيب أحد. تخفي سيفاً خلفها، بينما تضع
الأخريات السيوف في الجرار المركونة لدى الزاوية البعيدة من الغرفة) من الطارق؟
|
جايوس
|
(هامساً) جايوس جابينيوس! (تفتح مينا الباب، و تتراجع للخلف. يدخل شخصٌ
يلفّ نفسه بعباءة، ثم يوصد الباب خلفه بالمزلاج. تبرز مينا السيف وقد اعتراها
الشك، و لكنّه يلقي بالعباءة عنه) لا داعي للخوف..ولا للسيف..(يلتفت نحو
الفتاتين الذاهلتين في طرف الغرفة) لستُ عدوّاً_ (يخاطب مينا) أغلقي الأبواب
جيّداً، المنطقة مليئة بالجنود.
|
مينا
|
ما الذي جلبك إلى هنا _كيف استطعت أن_؟!
|
جايوس
|
حتميّات الموت و الحياة جلبتني إلى هنا. (يلقي عنه حزمة كبيرة، مبقياً
إلى جانبه أخرى) هذه لكم. إنها مواد و أدوات علاجيّة، و أغذية مجففّة. (يشير إلى
الفتاتين) أرجوكما، أخفيا هذه. (تنشغل الفتاتان بجمعها و إخفاءها) المدينة
مطوّقة بأعداد هائلة من اليهود، و في صباح الغد، ستغلق الحامية جميع البوّابات.
غدا قد تكون مجزرة! إخرجوا من المدينة الآن، قبل أن يصبح الوقت متأخراً لفعل
أيّ شيء.
(تنظر إليه مينا صامتة و على وجهها شيء من الذهول، فيمسك بها من ذراعيها)
أرجوكِ، حافظي على حياتك.. استمعي إليّ هذه المرّة، و اخرجي من المدينة؛ انسحبي
إلى أيّ مكان خارج الخريطة التي سيتغيّر وجهها غذاً: إذهبي إلى جدارا،
فيلادلفيا_ إلى أيّ مكان آخر!!
|
مينا
|
(تخلّص نفسها منه) أصدقائي جميعاً هنا، و بيتي و بيتهم هنا! أنا لا
أستطيع التخلّي عن كلّ هذا والرحيل.!
|
جايوس
|
سوف يكون عشرات الألوف من الجنود هنا عمّا قريب، و لسوف تقتلون جميعاً في
معركة يمكنكم الآن تجنّبها. هذه ليست معركتك يا مينا_ وفّري روحك للمستقبل!
|
مينا
|
أتريدني أن أنجو بحياتي بينما يُقتَل الجميع؟! أين العدالة في ذلك؟!
عندما تقضي الآلهة بموتي يا جايوس جابينيوس فسوف أموت، و لكنّني لن أموت
هاربة..!
|
جايوس
|
أنت لا تفهمين حقيقة الأمر! هذه المرّة لن تكون لعبة، لن تفيدي أحداً
هنا...
|
مينا
|
لا فرق بين الجدّ و اللعب على هذه الأرض؛ كلّها ألعاب مميتة..
|
جايوس
|
أصدقاؤك يخطئون التقدير يا مينا، و أنت تنجرفين معهم!
|
مينا
|
على العكس. أنا أقف حائلاً دون تطرّفهم. لا زلت أحارب بنفس الخطّ الذي
بدأت به، و قد بدأوا يرون ما أراه.
|
جايوس
|
كلّا! أنت تسيرين نحو الموت دونما غاية! بإمكانك أن تجعلى آخرين يبصرون
أيضاً في مكان آخر أكثر حاجة إلى الرؤية، لريثما ينتهي الأمر! روما عازمة على
سحق التمرّد؛ سوف تحترق الأرض تحت أقدامنا جميعاً..سوف تموتين دون أن تعرفي
عدوّك.. ألست تحاربين اليهود من أجل استعادة أرض شعبك؟ كيف يتحقّق هذا وقد اختلط
الأعداء ببعضهم و تغيّرت وجهة و قوانين المعركة؟!
|
مينا
|
سنتأقلم؛ لا بدّ و أن نبقى لندافع عمّا لنا في هذه المرحلة.
|
جايوس
|
وهل سيتأقلم هدفكم أيضاً؟ لن يترك الرومان طرفاً يدخل أتون الحرب القادمة
لحال سبيله...لن يمنحوكم أيّ شيْ...
|
مينا
|
(بسخرية مريرة، تكاد تشبه اليأس) لم يمنح الفرس قبلهم شيئاً أيضاً. (ترنو
إليه بحزن)قد لا يبقى لنا إلّا مجرّد وجودنا هنا و هذا هو الخطّ الأخير..لقد
جرّبنا الرحيل من قبل، و لن يحدث هذا مرّة أخرى.
|
جايوس
|
(يبدو و كأنما استوقفته الجملة، و لكن لم يعد هناك مجال لتعديل ما سيقوله)
روما ستدمّر يروسالم على أيّة حال، و سوف تسحق التمرّد اليهودي، و تعفيكم من
القتال...ماذا سيصبح هدف..؟ (يقطع كلامه بنفسه)
|
مينا
|
قد يقتنع أثبعل بكلامك هذا، إنما لست أنا، و لا القلّة التي تقف ورائي و
تؤيّدني..أنا لن أهرب كالجبناء و أتعاون مع الرومان لأستبدل عدوّاً بآخر، و
محتلّاً بآخر...
|
جايوس
|
(يهز رأسة بسخرية مريرة) لكنتُ بقيتُ على "مجرّد وجودنا هنا"
كمبرّر لو كنتُ مكانك. لكن لا تبيعيني عبارة "الهرب كالجبناء" هذه
لأنها لا تليق بي، ولا بك، فوق أنها تستخفّ بعقل من يدّعي ولو جزءا صغيراً من
الفهم السليم. ربما ستدركين بعد زمن، عندما يسوّي جالوس، والرومان القادمون من
وراء البحر، المدينة بالتراب، أنّها مؤامرة أكبر منّا جميعاً، و أنّ التواري
لبعض الوقت سيكون البديل الوحيد للانجراف في هاوية..(يصمت قليلاً) قد تهدّد هذا الوجود
الذي قد يكون أخطر ما يمكن أن تفقدوه!
|
مينا
|
(تنظر إليه كمن فوجيء بفهم فجائي يخشى أن يتأكّد من كونه حقيقة، فقرر
طرحه جانباً. تصمت لفترة متجنّبة النظر إليه مباشرة، و تغيّر الموضوع) لم أقصد
إهانتك..
|
جايوس
|
إرحلي معي يا مينا، أرجوك! أنا على استعداد ل_لم يبق لي ما أفعله هنا،
سوف..
|
مينا
|
لست لوحدي من يقرّر ماذا ينبغي يا جايوس! دعني لمصيري! دع الأقدار تقرّر
الأمر!
|
جايوس
|
(يصمت برهة، محاولاً ضبط انفعاله) هذا خيارك إذن...(تحاول مينا أن تقول
شيئاُ، و لكنّه يقاطعها، متابعاً بسرعة) لا تحاولي أن تشرحي أي شيء ، لكن فكّري
كيف تقتلين إرادتك. لقد نقلتني إلى عالمٍ حلمت كثيراً أن أكون فيه؛ عالم عشته
أيّاماً قليلة و قلبي يعدّ الدقائق وهي تتطاير مسرعة، متوقّعاً متى
تنتتهي...راغباً بشدّة في الحفاظ على حلم، و مقيّداً بعجز لم أشعر بمثله في
حياتي...ذلك بأننّي لم أشعر يوماً بأننّي نصف إنسان، سوى الآن.
|
مينا
|
أنت لا تفهمني جيّداً يا جايوس ولا تريد. لا تطلب منّي أن أحارب أكثر من
معركة..! لا بدّ أن يعاني المرء من أجل الأغلبيّة؛ لا بدّ من أن ينسى الإنسان
مشاعره الشخصيّة..! هذه هي معركتي مع نفسي، فلا تجعلها أصعب علي؛ كل هذه
الارتباطات..كل هذه المشاعر و ليس لي سوى قلب واحد...لا تحمّلني ذنبك..
|
جايوس
|
لن أحمّلك ذنبي..إنه ذنبي على أيّة حال.. و لكن الإنسان يحزن عندما يفقد
حلماً وجده لتوّه. إنّني أحارب نفسي أيضاً، و أعاني كوني أسيراً لوجود لم أعد
أرغب به. و صدّقيني، لم أُهزَم، لأنّني لن أدعك تخونين خيارك. لا تحاولي أن
تشرحي أي شيء، لأنّني أستطيع أن أفهم ما أيقنت بحدوثه! (يرفع العباءة عن الحزمة الأخرى،
فتظهر من تحتها أسلحة. يخلع دروعه و يضعها على الأرض) دافعي عن وجودك، لأن هذا
هو الخيار المنطقيّ الوحيد على هذه الأرض الملعونة، هذا أقصى ما أستطيع فعله من
أجلك..(يستدير ليخرج)
|
مينا
|
(تمسك بساعده بحركة لا إراديّة) جايوس! أنا..(تقطع كلامها بنفسها)
|
جايوس
|
(يضع يده على ذراعها بلطف) يوماً ما، أرجو أن لا تعود بك حاجة للاختباء وراء الكلمات الكبيرة و نصب الواجب ستاراً
أمام جوهرك، لأنك بهذا تفقدين الاتصال بحقيقة الأشياء..و صدّقيني أنني أعرف هذا
جيّداً، لأنني كنت هناك...وداعاً! (يتّجه للباب)
|
مينا
|
(تلحق به نحو الباب، وعلى وجهها انكسار) إلى أين؟!
|
جايوس
|
إلى قيسارية، ثم إلى..إلى_
|
مينا
|
إلى أين؟!
|
جايوس
|
لا أعلم، إلى قيسارية فقط...
|
مينا
|
ولماذا إلى قيسارية الآن؟
|
جايوس
|
لأن الأقدار و جالوس أرادا ذلك. (يستدير بسرعة، محاولاً إخفاء تعبير ما).
|
مينا
|
(تحاول البقاء صامتة، لكنّها تناديه فجأة، بارتباك) جايوس! (يقف، لكنّه
لا يستدير) ...احرص على حياتك..(يهزّ رأسه ببطء ثم يخرج، ويغلق الباب. يسقط
الصمت ثقيلاً على المكان للحظات، ثمّ تنهار مينا نحو الأرض، و تسرع الفتاتان
إليها).
|
مينا
|
يا للآلهة...ما الذي حدث لي؟!
|
إيسابل
|
من هذا الروماني؟
|
عثليا
|
لماذا لم تخبرينا عنه؟
|
إيسابل
|
كيف عرف مكاننا؟!
|
مينا
|
لم أعد أعرف...(ذاهلة) لم أعد أفهم شيئاً...
|
إيسابل
|
ما الذي يحزنك؟
|
مينا
|
ما الذي فعلتُه...و لماذا يؤلم لهذه الدرجة؟!
(تحدّث نفسها وقد رفعت عينيها إلى السماء) لم أفهم طيلة هذه المدّة..و
عندما فهمت...فهمت؟!؟ لا..لم يتغير شيء: لا يزال مستحيلاً هذا الخيار_ لماذا يا
عشتار؟! (تبكي) أيّ ابتلاء هذا، وفي أيّ وقت جاء!؟ رحمة بي يا قاسية القلب؛ ألا
تشعرين!!؟ ألا تتركين بشراً دون جرح من سهامك يا آلهة العذاب و الموت؟! ألا يرضي
غرورك إلّا تسليم قلوب عبادك لحبّ مستحيل يا أقسى الآلهة!؟!
|
عثليا
|
(تحاول تهدئتها) أرجوك يا مينا، كفاك تجذيفاً..
|
إيسابل
|
(خائفة بعض الشيء) هدّئي من روعك، لا ينقصنا الآن سوى غضب الآلهة...!
(مينا تبكي وقد أحنت رأسها باتجاه الأرض، وغطّته بيديها)
|
عثليا
|
هل تحبّه؟! (تشير عليها الأخرى بالصمت)
|
مينا
|
أتوسّل إليكما: اتركاني..دعاني لوحدي...
|
إيسابل
|
حسنا، لكن هدّئي من روعك..
|
عثليا
|
ولكن يا مينا، ليس من الخطيئة أن يحب المرء_
(تجرّها إيسابل من ذراعها، و تشير إليها بالصمت، ثم تأخذان رزمة الأسلحة
إلى غرفة مجاورة، تاركتين مينا تنتحب).
|
الفصل الثالث
المشهد الأوّل:
داخل خيمة في معسكر سستيوس
جالوس بقرب أورسالم. جنود رومان يغدون و يجيئون، يرتّبون المكان بعد تعرّضه لهجوم.
ضابط روماني يقف خلف طاولة، يقلّب لفّافات من الورق بعصبيّة ظاهرة. يرفع الجنود
قبضاتهم بالتحيّة لدى دخول جالوس، و الذي يبدو على وجهه الانزعاج الشديد. يشير
للجنود بالخروج بعصبيّة، مبقياً جندييّن لدى المدخل.
يؤدّي الضابط الروماني الذي
يقف وراء الطاولة التحيّة.
جالوس
|
(غاضباً) كيف حدث ذلك؟
|
الضابط
|
تفضّل بالجلوس أوّلاً يا سيّدي.
|
جالوس
|
لن أجلس قبل أن أعرف كيف وقعت الكارثة! (يدور حول نفسه و يصرخ) و كأنما
لا يكفيني فقد خمسمائة من رجالي في بيت حورون حتّى تداهمني كارثة جديدة! (يرفع
عينيه باتجاه السماء، صارخاً) و حقّ جوبيتر قاذف الرعود لأهدمنَّ السماء فوق
رؤوس السفلة!!
|
الضابط
|
هدىء من روعك يا سيّدي_ (يدخل ماركوس فيتيوس مرتبكاً، وغاضباً، ينظر بقلق
في وجه الرجلين).
|
جالوس
|
فقدنا خمسمائة من رجالنا يا ماركوس فيتيوس. لقد تحصّن المتمرّدون في
أورسالم، و لم نستطع دخول المدينة. و لقد...فقدنا الفرقة في الطريق إلى
قيسارية...
|
ماركوس
|
(يشدّ قبضتيه، و يتداعى جالساً على كرسيّ. يصمت مذهولاً قبل أن يرفع
رأسه) كلّهم..!؟
|
الضابط
|
لقد قُتلوا جميعاً.
|
ماركوس
|
(يضرب رأسه بيديه) كيف حدث ذلك؟!
|
الضابط
|
(موجّهاً كلامه للرجلين) مناحيم و شمعون، و أمراء آخرون طوّقوا الفرقة
بأعداد هائلة. كان الوضع يائساً، و بعد اشتباكات محدودة، عرض قائد الفرقة
الاستسلام بدون شروط، مع تسليم الأسلحة. و قد سار الأمر بسلام إلى أن خفض رجالنا
سلاحهم، و بدأوا بخلع دروعهم، إذ انقضّ عليهم الإسرائيلييون مرّة واحدة، و
ذبحوهم جميعاً...
|
ماركوس
|
(يضع وجهه بين كفّيه، متمتماً) جايوس...مات..؟!!
|
الضابط
|
(يتقدّم، واضعاُ يداً على كتف ماركوس) لقد قاتل رجالنا بشجاعة يا ماركوس،
مع أنّهم كانوا قلّة مجرّدة من السلاح. و خلا القائد_ (ينظر مرتبكاً باتجاه
جالوس، الذي يهزّ رأسه) خلا القائد لم يطلب رجل واحد منهم الرحمة، و لم يهرب
منهم أحد...كانوا يصرخون بكلمة "العهد"...العهد الذي خانه القتلة!
|
جالوس
|
مساعدي الجبان! قسماً بجوبيتر الأولمبيّ لأتركنّ جثّته تتعفّن في العراء،
و لأُشرّدن روحه في الجبال مائة عام، حتّى يعرف أمثاله ما مصير الجبناء!!
|
ماركوس
|
(للضابط) و جايوس؟
|
الضابط
|
لم يكن جايوس جابينيوس يلبس درعاً منذ البداية، و مع ذلك، وُجِد قتيلاً
في مقدّمة الصفوف، بين جثث العديدين الذين سقطوا. لم يترك سيفه، بل إنّه..(يمسح
دمعة سالت بغتة على وجهه) تبّاً.
|
ماركوس
|
ماذا؟!
|
الضابط
|
بل إنّنا لم نستطع تخليص السيف من يده حتّى الآن. وحقّ هرقل أنّني لم أر
منظراً أكثر رهبة من ذاك في حياتي! كان جسده و سيفه مصبوغين بالدم، ووجهه المليء
بالجراح كان يشعّ بنور سماوي، حتّى أن الجنود يقسمون بأن ذلك السيف من صنع
الآلهة..! لم أستطع التصديق بأنه ميّت...لم يكن يستحقّ ذلك..تبّاً!
|
جالوس
|
سيموت الأوغاد جميعاً: لن أقبل بأقلّ من صلب جميع من قبضنا عليهم!
|
جندي
|
(يدخل لاهثاً. يرفع التحيّة، و يتابع مقطوع الأنفاس) لقد اقتحمت عصابات
المتمرّدين برج أنطونيا! لقد علموا بطريقة ما أنه شبه خالٍ... بقاياالحامية في
البرج سقطت يا سيّدي!
|
جالوس
|
(يضرب رأسه بيده) ماذا تقول؟!!
|
ماركوس
|
(يستلّ سيفه من غمده وقد استبدّ به الغضب) لن أُغمده قبل أن أقتلك يا
جالوس، أو أموت!! (يسرع نحو جالوس، و لكنّ الضابط يعترضه) جرّد حسامك و نازلني!
|
الضابط
|
(يصرخ به) هل فقدت عقلك!؟! (يدفعه، و يتقدّم الجندي لمساعدته في إمساكه)
ما هذا الهراء الذي تنوي فعله؟!
|
جالوس
|
تصبح الكوارث مفهومة في جيش يتهجّم فيه الضبّاط على قادتهم!
|
ماركوس
|
(يلقي بسيفه أرضاً و يصرخ) تبّاً للآلهة!! (يستدير باتجاه جالوس وقد
استبدّ به الغضب) أنت السبب في كلّ شيء!! أنت أرسلته إلى حتفه من أجل مجدك!
|
جالوس
|
أمسك لسانك يا ماركوس فيتيوس!
|
ماركوس
|
لقد كنت تعلم! كنت تمدّ اليهود بالأسلحة لتسرّع التمرّد! كنت تعلم بأنّهم
يعدّون للتمرّد_لقد أرسلتَ الجنود إلى حتفهم!!!
|
جالوس
|
اقبضوا عليه! (الجنديان لدى الباب يمسكان به، و يقاوم).
|
ماركوس
|
لن يطول الأمر بك و بطموحك المزري، و سوف تدفع الثمن غالياً!!
|
جالوس
|
أنت تتّهمني بما لا يليق. لا تنس أنّك تحت إمرتي؛ أستطيع أن آمر
بإعدامك..!
|
ماركوس
|
و لم لا تفعل؟! أم أنّك تخاف حساب قيصر؟
|
جالوس
|
أنت تعلم تماماً أن من صلاحيتي أن أقتلك اللحظة، و أنني قادر تماماً على
ذلك!
|
ماركوس
|
قد تقتلني، و لكنّك لن تقتل صوتي، و لستَ إلهاً يا سستيوس جالوس! لقد
بدّدت أرواح آلاف الرومان، وغير الرومان من أجل طموحك، و أدخلت المنطقة في بحر
من الدم_لن يغفر لك و لفلوروس أحد!!
|
جالوس
|
خذوه إلى الزنزانة، سأتدبّر أمره فيما بعد. (يخرجان به، و يتبعهما
الجنديّ. يلتفت جالوس إلى الضابط) أريد جميع الأسرى مصلوبين الآن، و على طول
الطريق إلى أوروسالم، لا أريد أسرى أحياء!!
|
الضابط
|
وماركوس فيتيوس؟
|
جالوس
|
اعمل على أن يصمت الغاليّ اللعين إلى الأبد. دبّر له حادثة ما.
أنا خارجٌ الآن، تدبّر أمرك.
|
الضابط
|
(بصوت منخفض) حاضر.
(يخرج جالوس. يدخل الجنديّان، و يقفان بوضع الانتباه. يقف الضابط
أمامهما) دبّرا هروب ماركوس فيتيوس (يتبادل الاثنان النظرات) هذا أمر!
|
الجنديّان
|
(معاً) حاضر يا سيّدي! (يخرجان)
|
المشهد الثاني
غرفة واسعة في بيت مينا
بأورسالم.
عدّة قناديل تنير جزءاً من المكان
إنارة تكفي مينا و رفيقتيها، و عدد من الآخرين،
و الذين يعملون على إسعاف جرحى موزّعين في المكان، وعلى الأرض. يقطع رتابة الأصوات
دخول يابين فجأة، مقطوع الأنفاس. يغلق الباب خلفه، ثم يجثو على ركبتيه، أمام تمثال
لبعل.
يابين
|
لقد قُتِل!! قُتِل!
|
مينا
|
(تهرع إليه) من؟!
|
يابين
|
مناحيم! لقد أخفانا دافيد بلباس رجال مناحيم، وأحرقنا مخازن رجال ألعازر.
خرج رجال ألعازر و سحقوا مناحيم ورجاله جميعاً.
|
إيسابل
|
هل قُتِل منّا أحد؟
|
يابين
|
نعم، ولكن ليس الكثير..
(يدخل أثبعل وقد أصيب بجرح في يده، وعلى وجهه شحوب الأموات. يقفل الباب،
ويلتفت الاثنان إليه).
|
مينا وعثليا ويابين
|
(بصوت واحد) ماذا حدث؟!
|
أثبعل
|
لقد جنّ الرومان! آلاف الرجال صُلبوا على طريق المدينة. لم يبقوا أسيراً
على قيد الحياة.
|
عثليا
|
الحاكم جالوس؟
|
أثبعل
|
ومن غيره؟ لقد استدعوه إلى روما. (يضع يده على كتف مينا) لقد أُبيدت
الفرقة التي أرسلها إلى قيسارية، ولهذا...
|
مينا
|
(تغطّي وجهها بيديها) ماذا تقول؟!!
|
أثبعل
|
هذا ما حدث. أنا آسف لكوني مضطرّاً لنقل هذا الخبر... المؤلم اليك..
|
مينا
|
أنا سبب موته..! (تتقدّم عثليا و إيسابل لإسنادها)
|
عثليا
|
لا تلومي نفسك؛ إنها الأقدار.
|
مينا
|
بلى...كان بإمكانه أن ينجو!! كانت لديه كل فرص الحياة!!
|
إيسابل
|
لقد اختار طريقه، وسار فيها حتّى النهاية.
|
مينا
|
ولكنّ طريقاً أخرى كانت مفتوحة أمامه، وأنا أجبرته على اختيار طريق
الموت! لم يكن يريد الذهاب إلى قيسارية!!
|
يابين
|
كان محارباً حتّى النهاية!
|
مينا
|
كان يريد الذهاب حيث لا حرب..كان يريد الرحيل...كان يكره الحرب!!
|
يابين
|
هراء؛ كان رومانيّاً معتزّاً بهويّته. كيف يكون كذلك من يكره الحرب؟!
(يمسك بيدها مواسياً) لقد ولد محارباً، ومات كما يليق بمحارب...!
|
أثبعل
|
نعم يا مينا؛ هو لم يتخلّ عن واجبه كما لم تتخلّي عن واجبك، وكان قيامه
بواجبه عادلاً و إنسانيّاً...
|
مينا
|
ولكنّه يختلف عنّي؛ كان لديه خيارٌ آخر!!
|
أثبعل
|
خيار مرتبط بك؟
|
مينا
|
(تصرخ) لم يفرض عليّ شيئاً! لم يفرض نفسه عليّ!! كان يسعى للعدالة، وكان
يحبّ السلام!
|
أثبعل
|
كلّنا نحب العدالة. و كلّنا قد يُقتَل، بالرغم من ذلك. لقد قضت الآلهة
بموته، ولا رادّ للقضاء...
|
مينا
|
(فجأة) أريد حصانك يا يابين!
|
يابين
|
(متفاجئاً) لماذا؟
|
إيسابل
|
إلى أين؟
|
مينا
|
قيسارية.
|
يابين
|
هل جننتِ؟! ستكون المدينة مطوّقة!
|
مينا
|
أستطيع أن أتسلّل، فلقوّات مرتبكة. ثم إنّ لديّ ما قد يسهّل دخولي..
|
يابين
|
أنت فتاة! كيف تخرجين_ و لوحدك!؟ وفي وضع كهذا!؟ سوف تُقتَلين!
|
مينا
|
(تصرخ) أليس القضاء نافذاً، وسيقتلنا جميعاً!؟
|
عثليا
|
هدّئي من روعك! انتظري حتّى تهدئي، ثمّ فكّري بالأمر.
|
مينا
|
(تجلس على كرسي وتدفن وجهها بين كفّيها لفترة، ثمّ ترفعه مرّة أخرى،
متمالكة انفعالها) سأجلب السلاح و المعونة من أصدقائنا في قيسارية، ولن أكتفي
بهذا الآن_سوف أقاتل أيضاً.
|
إيسابل
|
مينا_ولكنّك...
|
أثبعل
|
(يمسك بها) تستطيع ذلك. لم يستطع أحد الخروج سواها، ونحتاج إلى وجود أحد في
قيسارية.
|
إيسابل
|
و لكنّنني أخشى...كيف تذهب لوحدها؟
|
أثبعل
|
لن يستطيع أيّ رجل الخروج، كما انها الوحيدة القادرة من بيننا على
التفاهم مع اليونانيين بلغتهم و أسلوبهم.
|
مينا
|
لم يعد لديّ ما أخشى عليه، ولم يعد يمزّقني الصراع. (ينظر إليها يابين و
إيسابل مستسلمين) أعطني حصانك! ما دام الأمر هكذا فإن قلبي لا يحمل تجاه القدر
ذرّة من الخوف! (تلبس درع جايوس، وتتقلّد سيفه، ثمّ تلفّ نفسها بعباءة وتخرج).
|
يابين
|
(يجلس على الكرسي، ناظراً باتجاه السماء) فلتحفظها الآلهة!
|
الفصل الرابع
المشهد الأوّل:
نفس الغرفة في بيت مينا، لكنّ
الحجارة متداعية بعض الشيء، و الأثاث محطّم. يستلقي عشرات الأشخاص على الأرض
دامين، يطلقون الأنّات بين الحين و الآخر.
يجلس يابين، مهلهل الملابس،
ومعصوب الرأس وقد اتّكأ بظهره على أحد الجدران القريبة، بينما يستلقي رأس أثبعل مرتخياً
في حجره وقد فقد وعيه على ما يبدو، إذ يطلق أنّات متقطّعة ما بين الفينة و الأخرى
وقد أدمي وجهه، وتمزّقت ثيابه.
أصوات نواح وعويل في الخارج.
يابين
|
(يمسح بيده على رأس أثبعل، ويكلّمه بصوت حزين) لا تمت الآن يا أثبعل! لا
تمت الآن يا صديقي..لقد قاربنا على الخلاص الأوّل..! قاومت طيلة هذه الشهور
الطويلة، أفتستسلم الآن؟! (أصوات بكاء ونواح في الخارج) صمدت طيلة الأيّام
القاسية، وسرتَ الطريق المضنية، فهل تتداعى الآن!؟ وقفت أيّام مناحيم، وألعازر،
وصمدت عبر حرب جالوس، وفسباسيانوس، وتيتوس، أفترحل وتتركنا في ساحة القتال
الأكثر شراسة؟!
ستكون عثليا هنا اليوم_عليك أن تبقى من أجلها!! ألا تريد أن تسمع من مينا
ما فعلته مع رفاقنا في قيسارية؟! ألن تنتظر قدومها مثلما أفعل كلّ يوم؟! لقد
أشعلت قيسارية أرض فلسطين كلّها..! لقد أشعلَت مصر وسورية تحت أقدام الغزاة،
وليس هذا وقت الرحيل!
أثبعل! لا تمت الآن!! (يمسك بوجهه بين يديه) انظر إليّ! ألا تسمع بكاء من
أبكونا!؟ لقد حرّك المستضعفون حجارة الأرض وأعمدة المعابد في قيسارية! لقد
أنطقوا جثث القتلى من جميع الأجناس المقهورة على هذه الأرض..! لم يبق أراميّ،
ولا أدوميّ، ولا فينيقيّ، ولا حتّى يوناني إلّا وانضم إليهم! لم يهدئهم حتى قدوم
قيصر...لقد طرد أهل صور جلّاديهم يا أثبعل، أفلن تبقى لتشاهد نجوم طفولتنا في
السماء هناك؟! أثبعل؛ ستحمل الأرض اسم أجداد مينا إلى الأبد يا صديقي، أفلا
تنتظر سماع اسم فلسطين ينطلق من حناجر بني شعبك إلى الأبد؟ الطريق طويلة يا أخي،
ولا زال أمامنا عمل كثير، فهل تغرق في النوم قبل أن ينتهي نهار اليوم الطويل؟!!
|
أثبعل
|
(يحرّك رأسه بضعف، ويتمتم شيئاً. يقرّب يابين أذنه منه ليسمع) لقد...
كنتُ مخطئاً...أنانيّاً..! اعتذر لدافيد نيابة عنّي و..اعطه سيفي..قل له إنّي
أرجوه..أن يصفح..عنّي (يسعل) اعتن بعثليا..و (يسعل بشدّه).
|
يابين
|
لا تقل هذا! ستعود لقواك و_
|
أثبعل
|
(يقاطعه) ) اعتذر لمينا...قل لها إنّني...إنّني..أرى...
|
يابين
|
(متلهّفاً) أنا معك يا صديقي..تماسك!
|
أثبعل
|
أرى..(يبدو وكأنما ينظر إلى شيء غير موجود) أرى..أرض..أرض فلسطين..في
سلام...إنه حلم..(يميل رأسه، وترتخي يداه)
|
يابين
|
(يضمّه بشدّة، ويصرخ) أثبعل!!!
|
(صوت قويّ في الخارج، يندب عالياً، مغطّياً على أصوات النواح و العويل.
يحدّق الموجودون في الغرفة بوجوه بعضهم، بينما يغرق الجرحى في أنينهم، ويابين لا
يزال محتضناً أثبعل.)
|
|
الصوت
|
"هو ذا صوت من الشرق، وصوت من الغرب، وصوت من الرياح الأربع، وصوت
على أورشليم، وصوت على الهيكل، وصوت على العرائس، وصوت على الشعب أجمع: الويل لك
يا أورشليم! الويل لك يا أورشليم!"
(يعلو نفير أبواق الحرب في الخارج و، من بعيد، يُسمع صوت تيتوس)
|
صوت تيتوس
|
أشهد أنا، تيتوس فلافيوس سابينوس، القائد الأعلى للقوّات الرومانيّة في
فلسطين، وقيصر روما، و "أُشهِدُ آلهتكم، و أُشهِدُكم أنتم و اليهود الذين
معي، وأشهِدُ جنودي أني لم أُجبركم على هذا الحرام. ولو كنتم خرجتم وقاتلتم في
مكان آخر، ما كان روماني ليدنّس هيكلكم المقدّس..." أمّا وقد استعصم رجالكم
به، واستخدموه برجاً للحرب، فقد تمّ ما أرادوا، و تمّت معاملته كذلك. لقد انتهت
الحرب اليهوديّة، و طبقاً لقوانين الفتح، فإنّكم، و ألقابكم، وأملاككم، وأرضكم
قد أصبحتم ملكاً للفاتح...
(تنطلق هتافات الجنود، و تنفخ الأبواق)
|
يابين
|
(حزيناً) يا لهذه الأرض التي ابتُلِيَت بالفاتحين...اشهدي أيّتها الآلهة
أن أبناء فلسطين لم يستسلموا بعد.
|
المشهد الثاني
-و الأخير-
مقبرة ساكنة، في مكان ما
على الطريق الخالية بين أورسالم و قيسارية. تصفر الريح مقاطعة صمت الليل، ويجيبها
حفيف أوراق متناثرة حول المكان. يتقدّم شبح لفتاة تحمل في يدها بعض الأزهار. تنحني
عند أحد القبور، و تضعها أمامه.
مينا
|
سلاماً أيّها الرومانيّ النبيل...سلاماً أيّتها الروح التي لم تعرف
الكراهية، فقضت عليها آلهة الانتقام بالموت!
يقال أنّ الموتى يسمعون أفكارنا...هذا ما سمعت، ولكنّني لا أعلم إن كنت
تسمعني يا جايوس جابينيوس... سأتحدّث على أيّة حال، لأنّ قلبي يخبرني بأنّك
تسمع..
أفتَرِضُ أنّك ستقبل اعتذاري، وتصفح عنّي، إذ لم أستطع أن أُساعدك كما
ساعدتني، ولم أستطع أن أفهمك مثلما فهمتني؛ وهنا أعترف بأنّني كنتُ أضعف، و بأن
قلبي كان أضيق من أن يتّسع لإنسان بمثل قدرك؛ إنسان قد لا يعرفه كثير من الناس
عندما يتناقلون أخبار هذه الحرب، و لكنّه حارب من أجل إنسانيّته كفرد و من أجل
العدالة فوق كلّ شيء...
قد يحارب المرء طويلاً، وبشدّة في سبيل أهداف يراها سامية، وقضايا يؤمن
بأنّها عظيمة، دون أن يعرف عقله دوافعه..يسير وهو مقتنع تماماً بأن ضبابيّة فهمه
تعود إلى كونه مدفوعاً بقوىً سماويّة، ليكتشف في النهاية أنّ الدوافع وراء أعظم
الأعمال كانت دوافع ذاتيّة، نابعة من شعور صادق و بسيط..لقد علّمتني كيف أعيش مع
ذلك، فاكتشفتُ في النهاية ذاتي؛ اكتشفت عندما حاربت بدافع من قلبي، فإننّي حاربت
أفضل، وأصبحتُ أصدق مع نفسي ومع الآخرين.
ربّما ما كنت لأعترف بذلك أمام أحد، ولكنّ دافعي الأكبر للاستمرار منذ
قُتِلت كان أنت..! لن يفارقني الشعور المؤلم بأنك دافعت عن عالمي، ولم يُقدّر لي
أن أرى عالمك، وماذا يمكن أن يكون.
قد لا يوجد سلام في هذا العالم؛ وقد لا تتحقّق أبسط الآمال، ولكنّني
تعلّمت منك كيف أتمسّك بلحظات الحقيقة القليلة التي تسبق النهاية؛ لحظات المطلق
التي يموت الشجعان ولا يتنازلون عنها لأن الواقع مشوّه.
ومن سخريات القدر أنّه يرينا أبعاد خياراتنا عندما ينتهي الامتحان،
ليجعلني الآن فقط قادرة على أن أشرح لماذا كان ما كان، وليس ما كان يمكن أن
يكون:
لقد اعتدت عبر سنوات من القهر أن أضرب رأسي بجدار المستحيل.. كنت كلّما
بنيتُ لي عالماً، قوّضه العالم؛ وكأنّما هو مكتوب سلفاً أنّ عوالمي تُغتالُ قبل
أن تعطي حياتي المعنى الذي أبحث عنه؛ تُقتَلُ بكلّ الشموس التي كانت توقف مسار
الزمن في أفقها البرتقالي، حابسة أنفاسها قبل أن يلتهمها البحر؛ بكلّ الدموع
التي كان الألم يمنعها من النزول...
كنتُ كلّما بنيت لي عالماً، قتلوه بين ذراعيّ، قبل أن أرى ما فيه يتطوّر
وينخرط في علاقاته التي ما كان لها أن تفارق ظهر الغيب...
لم أرد أن تموت في عالمي الذي بدأت أحس باحتضاره منذ خلافي مع أصدقائي.
بيد أنّ الآلهة قدّرت أمراً آخر، وقوّضت ما كان، وما كان يمكن أن يكون _على أيّة
حال_ وأجرت مقاديرها...
لم يمت عالمي _لسخرية القدر_ لأن إيمانك بالمطلق أحياه..لأن إيمانك
بمليون المستحيلات جعله ممكناً..هل أصبح عالمي عالمَك ليحيا من خلالي؟!
قد لا يزور ضريحك أحد من أهلك، فأنت جنديّ أُدِع التراب ليبني أمجاد
الآخرين، ولكنّني لن أنسى زيارتك، ولسوف أتذكّرك، وأتحدّث عنك ما حييت..وها هو
ذا سوارك معي، وسينتقل معي إلى العالم الآخر.
(تمسح دموعها وترفع عينيها إلى السماء)
أودّع هنا هذا الذي أعطى الكثير من نفسه دونما مقابل.
أودّع فتىً أحب دون أن يفرض نفسه، و أودّع في هذا المكان حبّاً مستحيلاً
قضت الأقدار ألّا يكون، ولكنّه كان، وسيبقى...
أودّع في هذا الروماني فلسطينيّاً حقيقيّاً أكثر من كثيرين ممّن كانوا،
وأكثر من ذلك ممّن سيكونون..!
أنا لا أدري بالغيب، ولكن، إذا كانت هناك ثمّةُ عدالة في السماء، فلا بدّ
أن تلتقي أرواحنا في عالم ما وراء هذا العالم، أو في زمن آخر، بطريقة ما. أنا
أؤمن بذلك...و إلى ذلك الحين، سأذكرك يا جايوس جابينيوس كافضل الذبن عرفت، و
ستُذكّرني دائماً بأن أبقى مخلصة للمستحيل الذي ضحّيتُ على مذبحه بأعزّ ما لديّ،
ونذرتُ له روحي قرباناً، إلى أن يحين وقت الرحيل إلى حيث الزمن لانهائيّ. فلترعى
روحَك عشتار.
|
يابين
|
(يأتي صوته عميقاً ورزيناً من الخلف) فلتسمع، ولتُجِب!
(تجفل مينا، فيخرج يابين من بين الأشجار) أُدرك لاوّل مرّة _مع أنّني لم
أفهم الكثير من الكلمات_ كم كان يعني بالنسبة لك، وأعتذر إذ لم أستطع أن أفهم مشاعرك (يصمت برهة ثمّ
يتابع) إلّا الآن..وأعتذر لأنّني استرقت السمع.
عليّ أن أشكرهُ أنا أيضاً، وأشكركِ لأنكما علّمتماني أن السيف والمجد
ليسا كلّ شيْ، وأنّ هناك واجباً إنسانيّاً وأخلاقيّاً بموازاة _إن لم يكن قبل_واجب
القتال من أجل الأرض. (يتقدّم باتجاه القبر ويجثو أمامه، واضعاً سلسلة تحمل
تمثالاً فضيّاً للإلهين بعل وعشيرات) كنتُ منذ أيّام في زيارة صديقٍ راحل، وأنا
الآن في وداع صديق آخر؛ صديقٍ آلمني رحيله، وإن كانت فترة تعارفنا قصيرة وباردة.
أترك قلادة لإلهين رعياني طيلة حياتي،
وصنتُ عهدهما، ليرعياك الآن. أستودعك في رعاية بعل وعشيرات يا جايوس جابينيوس.
(ينهض ويقف بجوار مينا. ينظران أمامهما بصمت).
|
مينا
|
لقد بعثت فيّ الأمل.
|
يابين
|
إن كنتُ فعلت، فهذا أقلّ ما أفعله من أجلك. والآن، إلى أين؟
|
مينا
|
معركتنا لم تنته بعد، بل لربّما
تكون بدأت للتوّ...لقد نصحني جايوس يوماً بأن أذهب إلى جدارا.
|
يابين
|
سأكون معك.
(يأتي صوت من خلفهما. يلتفت الاثنان وقد جفلا لرؤية شاب بلباس الجنود
الرومان يسير وقد أسند إليه شخصاً آخر. وعندما يقتربان، تصبح هويّتهما واضحة:
دافيد يسير مستنداً إلى ماركوس لإصابة في قدمه).
|
مينا ويابين
|
(بلهفة) دافيد! ألا تزال حيّاً!
|
مينا
|
إنّها لمعجزة!
|
يابين
|
(لماركوس) وأنت أيضاً!
|
ماركوس
|
لقد أنقذ حياتي. (يصمت قليلاً، ثمّ يوجّه كلامه بالأساس إلى مينا) أشكرك
لكلّ ما قلته. لقد علّمتني كم كنتُ مخطئاً بحقّك. يلتفت إلى يابين) أشكرك أنت
أيضاً. لم يلق أحد من قادته كلمة أمام قبره، لأنه أخلص لمن يموت جنودهم من أجل
أمجادهم الشخصيّة. أعتذر إن كنّا أخفناكم، وأعتذر _أنا أيضاً_لاستراق السمع.
|
مينا
|
لا بأس.
|
ماركوس
|
هل نستطيع مرافقتكما إلى جدارا؟
|
مينا ويابين
|
و لكنّك_
|
ماركوس
|
(مقاطعاً) ولكنّني جنديّ رومانيّ. نعم: جنديٌّ هارب، أعلم ذلك...و أعلم
أيضاً أنّني مخلص لصديقي، وملتزم أمام روحه، وأمام العدالة، بالمسير نحو عالمٍ
آمن به. لقد تعلّمت من هذه الحرب الكثير: تعلّمت أن الزمن لا يبخل بذوي القلوب
النظيفة؛ إنه يرسلهم ولو على فترات متباعدة.. يموتون، ولا يتذكّرهم الكثيرون.
لقد ولد ومات أبطال كثُرٌ لا نعرفهم. وسيولد ويموت آخرون مجهولون، قد
يكونون منّا، أو منكم، أو حتّى من أحفاد مناحيم...من المؤسف أن معرفة هذه
الحقيقة البسيطة كلّفتنا كلّ هذه الدماء.
(يلتفت باتجاه يابين، ويمدّ يده)
أنا الروماني، عدوّك التاريخي أيّها الفينيقيّ، أمدّ يدي إليك لنعمل من
أجل عالم أفضل.
|
مينا
|
(بحزن) أثبعل كان فينيقيّاً..
|
يابين
|
إنّما لا بأس! (يقبض على ذراع ماركوس، ويتصافحان بقوّة) كفينيقي، نيابة
عنه، أصافح ذراعك وليس في قلبي ذرّة من حقد، لنعمل من أجل عالمٍ أفضل. (يمدّان
يديهما إلى دافيد ومينا).
|
يابين
|
(يخرج سيف أثبعل من حزامه، ويمدّه إلى دافيد) اصفح عن أثبعل وعنّي يا
دافيد. لقد كنت أفضل منّا. أنا سعيد لأن بإمكاني تسليمك هذه الأمانة.
|
دافيد
|
(محاولاً التغلّب على تأثّره)سأصونها ما حييت. إن لنا –أخيراً- غايةً
واحدة..!
|
ماركوس
|
لقد نطق أخيراً.
|
مينا
|
(تغالب دموعها) لقد بعثتم في القوّة للإيمان بالمستحيل!
|
ماركوس
|
(يستلّ سيفه من غمده، ويضع الغمد على قبر صديقه) سلاماً عليك يا صديقي
وأخي. هذا عهدي لك بأن أدافع عن عالمك، وأتمسّك به حتّى أموت.
|
يابين
|
(لماركوس) دعني أسنده عنك، أنت تبدو متعباً. (يضع ذراع دافيد على كتفه)
سيكون هذا مشهداً لعثليا وإيسابل!
(يسير الأربعة مبتعدين. و يعلو صوت عميق كأنه يأتي من الأرض أو السماء،
ويبدو أن الأربعة لا يسمعونه:)
|
الصوت
|
"طوبى للغرباء، لأنّهم يرثون مملكة الله".
|
ستار
EPILOGUE
...وبعد حوالى ثلاثة عشر
قرناً، عثر أحدهم في الركام المنسيّ لمدينة من البازلت الأسود، تستلقي متراخيّة
على التلال المشرفة على بحر الجليل، عثرعلى سوار فضّي على شكل أفعى؛ سوار انتقل من
يدٍ إلى أخرى لحين لم يعد أحد يعلم كيف وأين وجد... ربّما احتجّ على نزعه، وهو
الذي بقي أكثر من ألف عام على معصم واحد، بتلك الشقوق التي تهدد بالتشظّي معدناً
موغلاً في القدمً؛ ليبقى مرسوماً في إطارٍ هو أليق ما يكون بمعصمٍ دقيقٍ لم يفارقه
في الحياة والممات...ربما كان معصم فتاةٍ منحها السوارَ شخصٌ عزيز...ربّما وُلِدت
على هذه الأرض، أو لعلها قدمت وماتت هناك..ربّما يكون اسمها مينا..كلّّ هذا لا يهم
الآن. ولكنّني، كلّما نظرت إلى هذا السوار الذي آل إليّ، تملّكني شعورٌ لا يمكن
تفسيره بأن المستحيل قد يحدث، في نهاية الأمر...

ملاحظات:
v
يمكن العودة إلى
تاريخ يوسيفوس للاطلاع على تفاصيل هذه المرحلة، بداية من الفصل الرابع عشر من
الكتاب الثاني. حيث يمكن تتبّع تفاصيل المناوشات بين اليهود و الجماعات الأخرى في
البلاد من أراميين، وسوريّين، و فينيقيين، و يونان وغيرهم.
و يشير التأريخ
المذكور بوضوح إلى أن اليهود قاموا بحرق و تدمير "مدن وقرى السوريين"
فيلادلفيا (عمّان)، جيراسا (جرش)، بيلّا (فحل) و سباستى (سبسطيه)....و "قرى
الصوريّين" كصور و أشكلون و ... و أنتيدون، وغزّة التي دمّروها تماماً. بينما
لم تقم كل القرى والمدن "المعادية لليهود" بقتل اليهود الساكنين فيها،
حيث يشير المؤرخ إلى أنّ أهل مدينة جدارا (أم قيس) لم يمسّوا اليهود في المدينة، وقاموا بإيصال من
يريدون منهم المغادرة إلى حدود المدينة.
v
قمت بالتصرف ببعض
الحوادث لغاية دراميّة، خصوصاً مع حادثة الفرقة الذاهبة إلى قيسارية.
و وفقاً ليوسيفوس،
تمّت إبادة الفرقة في منطقة أقرب إلى أورسالم ممّا هي إلى قيسارية، ولذا جعلتُ
الحادثة على طريق هذه الأخيرة، و تجاهلت ذكر اسم قائد الفرقة ليمكنني التصرّف
بالشخصيّة. و يذكر التاريخ ان اسم هذا الأخير كان ميتيليوس، و أنه الوحيد الذي نجا
من المذبحة، كونه طلب الرحمة، و نذر بأنه سيختتن ويصبح يهوديّاً إذا ما أخلوا
سبيله.
و يذكر يوسيفوس بأن
ذبح الفرقة تمّ في ذات الوقت الذي قتل فيه أهل قيسارية اليهود الذين يعيشون بينهم،
و رآى في ذلك تدبيراً إلهيّاً.
v
أوردت فكرة "
الموتى يسمعون أفكارنا" في مقدّمة خطاب مينا أمام قبر جايوس كمخرج من النصّ
الطويل، و الذي قد تصعب تأديته مسرحيّاً، ولذا فليس من الضرورة أن تقول مينا
الكلام كلّه.
No comments:
Post a Comment